أحداث التوراة في النقوش الآشورية: لا شيء عن فلسطين: فاضل الربيعي

0

تواجه الباحثين في التاريخ القديم -غالبا- معضلة تقنية مزدوجة، قد تبدو غير قابلة للحل، مصدرها التناقض الصارخ بين الرواية الدينية والتاريخ الرسمي. في حالات لا حصر لها، يصبح هذا التناقض صارخا، فما تقوله الرواية الدينية، قد لا نجد ما يؤكده في التاريخ الرسمي.
لكن -من جانب مواز- غالبا ما تظهر معضلة أخرى، حين تتطابق الرواية الدينية مع التاريخ. في الحالتين، لدينا مشكلة في التحقق. هذا الجانب من المسألة المثارة يتجلى -على أكمل وجه- مع التوراة، فهي تتناقض وتتوافق في الآن ذاته مع السجلات التاريخية.
وعلى العكس من المزاعم الشعبية التي يروجها بعض الباحثين، بأن التوراة كتاب قصص أسطورية لا قيمة لها، وأنها محرفة… إلخ؛ فإن التحرّي عن هذه المزاعم بدقة علمية، سوف يبرهن على العكس من ذلك، وأن التوراة سجلت في كثير من الأسفار الدينية ما يمكن تسميته “الجزء المنسيّ” من التاريخ، وقد لعب الكهنة اليهود المتأخرون دورا محوريا في تدوين الكثير من الوقائع التاريخية؛ لكن القراءة الاستشراقية المعاصرة، هي التي تلاعبت بمضامين النصوص، عندما ربطت هذه الأحداث بفلسطين.
مصادر التناقض
وهكذا يتضح لنا أن أحد أهم مصادر التناقض بين الرواية الدينية التوراتية والتاريخ، يكمن في إصرار التيار التوراتي على وضعها خارج نطاقها التاريخي الصحيح.
“أحد أهم مصادر التناقض بين الرواية الدينية التوراتية والتاريخ، يكمن في إصرار التيار التوراتي على وضعها خارج نطاقها التاريخي الصحيح”
سأعطي هنا مثالا حيويا لطبيعة المعضلة في هذا الميدان: تسجل التوراة في سفر “صموئيل 2: 8 : 4، 7” واقعة تاريخية، ذكرتها النقوش الآشورية، وتتعلق بتفاصيل معركة يُزعم أن داود خاضها ضد ملك يدعى “عزر” وفي مكان يدعى “هدد” وهي تسميه “هدد عزر”. ومع أن التوراة لا تذكر قط، اسم فلسطين، ولا سوريا؛ فإن المؤرخين وعلماء الآثار من التيار التوراتي، وضعوا هذه الأحداث ضمن التاريخ الفلسطيني السوري.
هاكم نصا واحدا فقط من نصوص كثيرة سجلت فيها التوراة وقائع المعارك ضد “هدد عزر”، ونكتفي هنا بذكر التهجئة العربية للكلمات الإنجليزية تبعا للسياسة التحريرية المتبعة في موقع الجزيرة نت: “وضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة، حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفروت، فأخذ داود منه ألفا وسبعمئة فارس وعشرين ألف راجل وعرقب داود جميع خيول الراكبين وأبقى منها مئة مركوب. فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة، فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل، ونصبّ داود ولاة له في آرام دمشق، وصار الآراميون لداود عبيدا يقدمون هدايا، وكان الرب يخلص داود حيثما توجه، وأخذ داود تروس الذهب التي كانت على عبيد هدد عزر وجاء بها إلى أورشليم”.
هذه الوقائع، تتطابق حرفيا مع نقوش سنحاريب، وشلمانصر، وأدد نيراري الثاني، الذين اصطدموا بملك قبلي يدعى “هدد عزر” وقاموا بضرب وتأديب الآراميين المتمردين. كما أن أعداد القتلى التي تسجلها هذه النقوش، تتطابق مع ما جاء في التوراة.
هاكم مرة أخرى جزءا من نقش شلمانصر الخامس (حملة السنة 14 من حكم شلمانصر الخامس 845 ق.م):
(87-89) في السنة الحادية عشرة من حكمي، عبرت الفروت للمرة التاسعة. استوليت على عدد لا يحصى من المدن. هبطت على مدن كأرض حمات. استوليت على 89 مدينة: هدد عزر، من آرام، واثني عشر من ملوك الأرض تحالفوا مع بعض، تمكنتُ من دحرهم.
( 54-62 ) وفي السنة السادسة من حكمي اقتربت من مدن على ضفاف “بلاح” حين قاموا بذبح (غيمو), حاكم مدنهم. دخلت “تل مارع” و”أهيي”. وعبرت الفروات في وقت فيضانه. وتلقيت الهدايا من جميع ملوك “حتي”. في ذلك الوقت قام كل من “هدد عزر” ملك آرام و”عر خوليني” وملك أرض “حمث”، مع جميع ملوك “حتت” والساحل، واعتمدوا على قوة بعضهم البعض، ليخرجوا ضدي في معركة وحرب. تحت أوامر “آشور”، السيد العظيم، يا سيدي، اقتتلت معهم، وأتممت هزيمتهم. أخذت مركوباتهم وفرسانهم وأسلحتهم الحربية. وذبحت 20,500 من محاربيهم بالسيف”.
ها هنا “هدد عزر” الذي ذكرته التوراة. وها هنا أعداد القتلى ذاتها تقريبا.
وهاكم نقشا آخر من نيراري الثاني (894 ق.م): (87-89) وفي السنة 11 من حكمي عبرت الفروات للمرة التاسعة. استوليت على مدن كثيرة. ونزلت مدن أرض “حمث”. استوليت على 89 مدينة. ووقف “هدد عزر” ملك آرام، مع اثني عشر ملكا من أرض “حتي” مع بعضهم البعض. ولكنني نجحت في الإطاحة بهم.
735. أعطيت اﻷمر بالسير لمواجهة أرام و[أخرستُ] عماري في دمشق، [مدينته الملكية]. (وأخذت) 100 طالون من الذهب، 1000 طالون من الفضة.
740. مضيت لمواجهة أرام وأسكتُّ ملك أرام في دمشق عاصمته الملكية. سحقه بهاء آشور المخيف، سيده، فقد جعلته يخرّ عند قدمي، وغدا تابعا لي وجعلته يكون في خدمتي. وأخذت 2,300 طالون من الفضة و20 طالونا من الذهب و3000 طالون من النحاس، و5000 طالون من الحديد، وملابس صوفية و كتانية ملونة، وسريرا من العاج، وأريكة من العاج، مرصعة ومبهرجة، وممتلكاته وبضائعه، بكميات لا عد لها، من قصره في دمشق مدينته الملكية. أحضرته بين يدي. ووضعت مشرفا عليها. وجعلتُ “برع إيل” يخضع تحت قدمي .أيا وخيبان وبدن والعي وتيما وسبأ وعموس على حدود الشمس من الغرب التي ما كان ﻷحد أن يعرفها، والتي يقع موطنها (مكانها) في البعيد هناك، كانوا قد سمعوا بمجد جلالتي. حلبوا جمالا، ونوقا، وكل أنواع الأعشاب وجزيتهم، وضعوها كلها بين يدي طوعا [وقبّلوا قدميّ]. عينت أهل إيل أدبئيل مشرفين على تخوم مصر(ن). وفي جميع أراضي… في أرك، وكمنو(كمنهو) وكوش وتي وسبأ، وقفطي، وسباطي، وبعل جبلة وإيل حمش، وبن عمو وسمعي إيل، وتل خور لر التي تتبع -قبيلة- جُرم، وإيلحاز اليهودي في اليهودية.
“قد جرى في القرن الماضي وبطريقة مكشوفة، إطلاق بعض الأسماء الواردة في التوراة على قرى وبلدات فلسطينية، لخلق مسرح تاريخي جديد”
قبائل اليمن
هذه المدن والقبائل وبنفس الترتيب، لا تزال موجودة منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة في الجوف اليمني؛ بينما لا يوجد منها أي اسم في الجغرافية والتاريخ الفلسطيني. جرى في القرن الماضي، وبطريقة مكشوفة، إطلاق بعض الأسماء الواردة في التوراة على قرى وبلدات فلسطينية، لخلق مسرح تاريخي جديد، كما أن الكثير من الباحثين العرب من أتباع المدرسة الاستشراقية، فسروا أسماء مثل (حمث) و( حمش) باعتبارهما حماة وحمص في سوريا، وكان هذا تزويرا فاضحا.
ولنلاحظ التعبير المثير في التوراة أن داود (ذهب ليسترد سلطته عند الفروت- الفرات)؟ وقارن هذا التعبير مع مثيله في كل نقوش سنحاريب وشلمانصر وسواهما (عبرت الفروت)؟ فلماذا جرى وضع هذه الوقائع ضمن تاريخ فلسطين وسوريا، بينما تتحدث النقوش الآشورية عن مدن وقبائل الجوف مثل كمنهو (وهي العاصمة الدينية لمملكة معين مصرن في الجوف) وعن قبائل اليمن الكبرى مثل سبأ وجُرم؟ هل يمكن تصديق تفسيرات المدرسة الاستشراقية وأتباعها من العرب المضللين؟
لا شيء عن فلسطين، قط، لا في النقوش ولا في نصوص التوراة.
إن حل التناقض بين الرواية الدينية التوراتية والتاريخ، لن يكون ممكنا إلا بوضع نصوص التوراة ونقوش الحملات الحربية الآشورية ضمن التاريخ الحقيقي. وكيف يمكننا تصديق أن “هدد عزر” كان في فلسطين؛ بينما تؤكد النقوش الآشورية أن معاركه دارت في “كمنهو” العاصمة الدينية للمعينيين والسبئيين، وضد سبأ وضد إيلحاز اليهودي في أورشليم.

قد يعجبك ايضا
اترك رد
آخر الأخبار