يحضر الحزن الأليم حين يغيب الكبار .. أخي سامي عطاري .. وداعاً في ذِمّةِ اللهِ ما ألقى وما أجدُ أهذه صخرةٌ أم هذه كبِدُ قد يقتلُ ألحزنُ مَن أحبابهُ بَعُدوا عنهُ فكيفَ بمن أحبابُهُ فُقدوا

يحضر الحزن الأليم حين يغيب الكبار .. أخي سامي عطاري .. وداعاً
في ذِمّةِ اللهِ ما ألقى وما أجدُ أهذه صخرةٌ أم هذه كبِدُ قد يقتلُ ألحزنُ مَن أحبابهُ بَعُدوا عنهُ فكيفَ بمن أحبابُهُ فُقدوا
“محمد مهدي الجواهري”

عمان-بقلم: فهد الريماوي – جريدة المجد الاردنية
الحزن طاغية ظالم مستبد يمزق الروح، ويضني النفس، ويرهق الجسد، ويعطل مراكز التفكير، ويسد منافذ التعبير، ويترك للمحزون ان يتجرع وحده فيوض الالم والاسى واللوعات والحسرات.

أشد جراحات الحزن ما كان عصياً على إطاقة وجعه، وإستطاعة تحمله والتصبر عليه، تبعاً لمرارة بواعثه وموجباته ودواعيه، وفي مقدمتها فَقدُ الرجال الكبار، والقامات العالية، والهامات الشامخة، والضمائر المؤمنة بحق امة العرب في الوحدة والحرية والاشتراكية وتحرير كل اجزائها السليبة.

من دمشق الفيحاء القابضة على جمر عروبتها تحت اقسى الظروف، جاءنا نعي القائد والمناضل الباسل، وآخر رعيل القوميين الكبار، الرفيق الجليل سامي عطاري، عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وأحد المؤسسين للحزب في الضفة الغربية، والراسخين في ميادين نضاله منذ خمسينات القرن الماضي، جنباً الى جنب مع عبد الله الريماوي، وعبد الله نعواس، وبهجت ابو غربية، وبسام الشكعة وآخرين.

كان لا بد لي من إستيعاب الصدمة، واحتواء المفاجأة، ولملمة شتات المشاعر المفجوعة، وهدهدة نشيج النفس الملتاعة، وكبح جماح موجة الحزن الطاغية، قبل الكتابة بسواد الحبر عن رحيل هذا الصديق الحميم، والشقيق الذي لم تلده أمي، بل ولدته – منذ ثلث قرن – رابطة روحية ومبدئية وأخلاقية عزّ نظيرها في هذا الزمن الباهت.

فحين يكون الفقيد من سوية واريحية “ابي جهاد” تصعب الكتابة عنه، وتعجز الابجدية عن إيفائه حقه، وتتصاغر الحروف والكلمات امام مهابته وجلال قدره.. فهو كبير وأصيل ومتميز في كل صفاته، وهو بطل مواقف حاسمة ومبكرة في رفض بازار المساومات على قضية فلسطين، إبان كان رقماً قيادياً كبيراً في منظمة التحرير.

وداع هذا الفقيد الغالي يعني إسدال الستارة على مسيرة جيل خالد من شيوخ النضال القومي الذين صدقوا ما عاهدوا الله والوطن والشعب عليه وما بدّلوا تبديلاً، ووهبوا اعمارهم وافكارهم وأقدارهم لامتهم، ابتغاء مرضاتها وتحقيق اهدافها وغاياتها وتطلعاتها، بعيداً عن اية مغانم ومطامع وحسابات شخصية تتنافى مع كبريائهم وترفعهم وعزة انفسهم.

وعليه، فأن ترثي سامي عطاري يعني ان ترثي جبلاً أشم، اول سماته الجمع بين العلو الشامخ والثبات الراسخ.. أن تبكي هذا الرجل يعني أن تبكي نهراً عذباً، اول صفاته العطاء الوطني والسخاء الحاتمي.. أن تنعي “ابا جهاد” يعني أن تنعي زمناً عروبياً نهضوياً تليداً، ابرز عناوينه عبد الناصر وحزب البعث.. أخيراً، فان تؤبن هذا الفقيد يعني أن تؤبن مساحة كبيرة من روحك وقلبك ووجدانك إستولى عليها هذا الاخ العزيز بكامل إقتناعك وترحيبك ورضاك.

يُقال ان “لكل امرئٍ من اسمه نصيب”، وفي يقيني أن هذا القول اكثر ما يكون إنطباقاً على فقيدنا الغالي سامي عطاري.. فهو “السامي” فعلاً وقولاً، وهو المفطور على جملة خِصال رفيعة، وسجايا كريمة، واخلاق قويمة، ومسالك مستقيمة، وشمائل اخرى كثيرة تَنِدّ عن الحصر، وتتجاوز حدود التألق والإبهار والتثمين العالي.

هذا الرجل أستاذ في فن التعامل مع الآخرين، ونيل ثقتهم وإحترامهم ومودتهم في أسرع وقت.. ليس لأنه صاحب تجربة حزبية غنية وتاريخ نضالي حافل فقط، بل لأنه ايضاً صادق بطبعه وطبيعته، ومخلص في صداقته ومحبته، وسمح في معشره المُتأبي على الحقد والضغينة والكراهية، وحكيم حليم في مجالسه وأحاديثه ونقاشاته، وفاعل مرفوع بفروسية النخوة والشهامة ومد يد العون والإسناد للغريب والقريب، دون ان ينتظر جزاءً ولا شُكوراً.

لهذا الراحل العزيز في عنقي وفي ذمة “المجد” دينٌ كبير، فبمجرد انطلاقتها في نيسان عام ١٩٩٤ إستقبلها بشديد الحماس والتشجيع، وأحاطها بموفور العناية والإهتمام، واعتبر الوقوف الى جانبها “فرض عين” عليه.. ولما كانت الصحف الاردنية ممنوعة آنذاك من التوزيع في سوريا ولبنان، فقد تولى من تلقاء نفسه مهمة إستثنائها من قرار المنع، والسماح لها سريعاً بارتياد الديار الشامية.. باذلاً في سبل ذلك مجهوداً شاقاً، ومستنفراً كبار المسؤولين من رفاقه في الحزب والحكومة، بدءاً من الدكتور محمد سلمان، وزير الاعلام يومذاك، وليس انتهاءً بالاساتذة عبد الحليم خدام، وعبد الله الاحمر، وفاروق الشرع، وغيرهم من أركان الحلقة المُقرّبة من القائد الخالد حافظ الاسد، الذي ما ان اطلع – رحمه الله – على بعض أعداد “المجد” حتى اوعز لوزير الاعلام باجازة دخولها سوريا، ومعاملتها على قدم المساواة مع كبريات الصحف العربية الصديقة.

يومها قامت قيامة الصحافة في الاردن، فقد كثر القيل والقال، وتعددت الاراجيف والشائعات وحتى الاتهامات، وشرّق الكثيرون وغرّبوا في تعليل اسباب هذا الاستثناء الذي حظيت به “المجد”، وتخمين اسماء الجهات “النافذة جداً” التي تقف خلفه.. ولم يَدر في خَلَد اولئك وهؤلاء ان رجلاً واحداً (ولكنه يُعدّ بالف رجل) هو الذي أتاح، بإصراره وعناده، لهذه المطبوعة الاسبوعية الكادحة والمكافحة التشرف بلقاء القراء الاشقاء في مدائن الأرز والياسمين.

ليت شعري ولهف نفسي، فقد قضى توأم روحي دون ان القاه منذ عشر سنوات، حيث كان لقاؤنا الاخير في بيت عزاء قائد فتح – الانتفاضة، المناضل الصنديد “ابو خالد”العملة بدمشق عام ٢٠١٢.. ولطالما دعوناه – معشر اخوانه ورفاقه الكثر – مراراً وتكراراً، حين إشتد عليه المرض خلال العام الماضي، لزيارة عمان بغرض المعالجة ولو لفترة قصيرة، ولكنه أبى ان يتزحزح من دمشق الفيحاء التي سكنت قلبه بمثل ما سكن قلبها، وأكرمت وفادته بمثل ما أخلص لها، وتوحد فيها، وإستلهم صموده وصبره من صمودها وصبرها، واختار ان يحيا مناضلاً ويموت مرابطاً بين ظهرانيها.

رحمه الله رحمة واسعة، وخالص العزاء لعقيلته الوفية المُحتسِبة، وكريماته الماجدات، واهله الكرام، ورفاقه أجمعين.. إنا لله وإنا اليه راجعون.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

آخر الأخبار