السياسة الخارجية الروسية بعيون غير يسارية

 -بقلم:توفيق شومان.

تجمع مظلة السياسة الخارجية الروسية ، متناقضين وأعداء ، وتحت مظلة الصداقة مع روسيا ، لا بد من ملاحظة وجود سوريا وتركيا ، إيران و ” إسرائيل ” ، السعودية وقطر ، وهذا يعني أن السياسة الخارجية الروسية لا تعتمد ” سياسة المحاور” التي عرفها العالم إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والغربي.

والواضح تماما من خلال هذه السياسة ، أن الرئيس فلايمير بوتين ، ينطلق قي سياسته الخارجية من ركيزة العلاقة الثنائية بين روسيا وكل دولة على حدة من الدول السابقة الذكر ، مما لا يجعل السياسة الخارجية الروسية مندرجة في سياق محور معين أو قائدة لهذا المحور أو ذاك.

ولو تم التمعن في التناقضات الذاتية والموضوعية لأصدقاء روسيا في الشرق الأوسط ، لرأينا فجوات هائلة بين ” أصدقاء الروس” ، وكذلك تضارب مصالحهم واستراتيجياتهم ، وهذا يتطلب الإبتعاد عن الإسقاطات التخيلية التي تفترض ، من منطلق رغبوي ، أن السياسة الخارجية الروسية تعمل على إحياء إرث الإتحاد السوفياتي وتصوراته وقواعد صراعاته مع من هم خارج ” المحورالشيوعي “.
لعل اللغط التخيلي الذي وقع البعض في شُركه ، وهو يقرأ السياسة الخارجية الروسية ب “عيون محورية ” ، متأت من لحظة التدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية في الثلاثين من أيلول / سبتمبر 2015، إذ تم تحميل هذا التدخل أثقالا وأبهاظا ، تجاوزت الميدان السوري ، وأغلب الظن ، بل اليقين ، أن هذا التخيل المفتوح على مداه المطلق ، نجم عن قراءة ” روسيا الجديدة ” بحروف الحنين السوفياتية ، أي قرءاة عاطفية وانفعالية وغير واقعية ، وقد دلت تطورات الأزمة السورية ، ميدانيا وسياسيا ، إلى أن ” القراءة اليسارية ” لسياسة روسيا الجديدة ، فيها ما يوقع في التهلكة وآثام التحليل وخطاياه.
إن قراءة السياسة الخارجية الروسية ، وبعيدا عن تخيلات وأوهام المفكر الروسي ، ألكسندر دوغين ، لا تقوم على المواجهة، بقدر ما تطمح إلى أن تكون روسيا شريكا أوفاعلا في النظام السياسي والإقتصادي العالمي الذي يجري العمل على بلورته وتشكيله ، وهذا لا يعني أن الرئيس بوتين ذاهب إلى “ارتداء المرقط ” واللباس العسكري ، فهو لم يرتد هذا اللباس بعد خروج معظم اوكرانيا في العام 2014 ، من الزواج التاريخي والحضاري مع روسيا ، الذي استمر أكثر من 300 عام ، وكذلك ، لم يحفر خنادق القتال مع تركيا بعد إسقاط الطائرة الروسية في العام 2015، ولعل اتفاقية “خفض التصعيد” في محافظة إدلب السورية ، تنزع هي الأخرى ، عن الرئيس بوتين ، إصرار ” القراءة اليسارية ” على إلباسه ” ثياب الميدان” أو القبعات الحمر السوفياتية .
نعم ، الرئيس فلاديمير بوتين ، ” ارتدى المرقط ” في الميدان السوري ، فالحرب السورية شكلت بوابة العودة الروسية إلى الإقليم والعالم ، ولكن ارتدءاه ” المرقط ” في سوريا ، لا يعني ارتداؤه ثياب ” الثورة الدائمة “، على ما قال ذات مرة ، ليون تروتسكي ، وطالما الغاية المرجوة قد تحققت بالوجود الروسي المباشر في سوريا ، فلا ضرورة لحروب إضافية، إلا إذا تعرضت روسيا لعدوان خارجي كما قال الرئيس بوتين في خطاب شهير له في الثالث والعشرين من كانون الثاني / ديسمبر 2016 ، وإذ باتت روسيا على شواطىء المتوسط ، وتجاور العراق ، والأردن ولبنان و”إسرائيل” ، وتحد تركيا بريا من خلال سوريا ، وبحريا من خلال البحرين الأسود والمتوسط ، فهذا يعني أنها باتت في قلب العالم القديم .

ولكن ، ما تجدر ملاحظته في هذه العودة الروسية ، انها ليست عودة ايديولوجية ، وليست إعادة اصطفافية قسرية تحاكي وقائع العهد الشيوعي الراحل ، مثلما كانت الحال مع “ربيع بودابست “( المجر) في العام 1956، أو “ربيع براغ “( تشيكوسلوفاكيا) في العام 1968 ، أو غزو أفغانستان في العام 1979، فالعودة الروسية إلى الشرق الأوسط ، هي ” استدعاء محلي ” لروسيا ، فالإيرانيون والأتراك والسعوديون والقطريون والسوريون ، وحتى المصريين وبعض الليبيين ، هم الذين تنادوا فرادى للذهاب إلى روسيا ، وليست روسيا هي التي جاءتهم قسرا وقهرا ، وهنا مكمن الفارق الكبير بين السياسة الشيوعية التوسعية والقسرية في المرحلة السوفياتية ، وبين سياسة ” الإستدعاء المحلي ” لروسيا في قلبها وقالبها الجديد.

وانطلاقا من ذلك ، من الأهمية بمكان، قراءة السياسة الخارجية الروسية ، من زاوية الصداقات الثنائية بين روسيا وغيرها وليس من زاوية محورية شاملة ، خصوصا في الشرق الأوسط ، فالعلاقة مع إيران قاعدتها التعاون العسكري الثنائي والنظرة التقاربية حيال الأزمة السورية ، علما أن الإمتحان الإستثماري الروسي دخل على خط العلاقة مع طهران بعد إنسحاب الرئيس دونالد ترامب من الإتفاق النووي ، بالإضافة إلى بعض الميل الروسي للإستفادة من المواجهة الإيرانية ـ الأميركية ، ومع تركيا محورها الإقتصاد وخط الغاز الروسي عبر الأراضي التركية والإشراف الروسي على مفاعلين نوويين تركيين ، و” تنظيم ” الخلاف التركي ـ الإيراني إزاء الوضع السوري ، ومع السعودية التنسيق في مجال النفط وضبط إنتاجه وأسعاره ، فالسعودية وروسيا تتصدران قائمة إنتاج النفط العالمي ، فكلاهما ينتج حوالي عشرة ملايين برميل نفط يوميا ، وفي السياق السعودي ـ الروسي أيضا ، تنبغي ملاحظة ” السكون ” الروسي حيال قضية مقتل الكاتب الصحافي جمال خاشقجي ، والتصريح الشهير للرئيس فلاديمير بوتين تعليقا على قضية خاشقجي غدا عنوانا مختصرا لرغبة موسكو بالحفاظ على سياسة الجسور المفتوحة مع الرياض ، إذ قال بوتين ” لن نفسد علاقتنا مع السعودية دون حقائق قوية ـ 18 ـ 10 ـ 2018 ” ، وهذه السياسة تبدت بوضوح من خلال لقاء الرئيس بوتين بولي العهد السعودي محمد بن سلمان في قمة العشرين في الأرجنتين في الأول من كانون الأول / ديسمبر 2018 ، وأما مع ” إسرائيل “، فالأمن القومي الإسرائيلي يشكل فضاء وتفاصيل العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية.
هذه الرؤية للسياسة الخارجية الروسية ، المستندة إلى نقاشات متعددة مع معلقين ومحللين وباحثين روس ، عمادها القول إن روسيا الحالية غير روسيا السوفياتية ، وبالتالي فإن سياستها اليوم ليست امتدادا أو إحياء لسياسة الأمس المنهار ، ولعل أهم ما يقوله الروس أنفسهم : إن “سياسة المحاور ” ، ليست القاعدة التي تتشكل عليها سياسة الإتحاد الروسي في مرحلة ما بعد الإتحاد السوفياتي .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

آخر الأخبار