أبو علي مقبل..ضمير شعب وصوت حقّ..«منشد وحادي الانتفاضتين

أبو علي مقبل..ضمير شعب وصوت حقّ..«منشد وحادي الانتفاضتين»

محمد العبدالله
«فلسطين بالنسبة إليه جديرة بأن يحمل المرء السلاح ويموت في سبيلها» غسان كنفاني – رواية عائد إلى حيفا
«الكلمات التي لا تتطابق مع الأفعال هي كلمات غير مهمة»
أرنستو تشي جيفارا
مدخل
أيام قليلة فقط مرّت على الذكرى الأربعين لرحيل جسد محمد محمود سليم مقبل (أبو علي مقبل) المولود في مدينة الرملة المحتلة عام 1945، اللاجئ إلى الأردن مع عائلته نتيجة نكبة 1948. توقّف قلب المناضل الجماهيري، والحزبي، على مدى عدة عقود يوم 30 / 1 / 2024 في أحد مستشفيات مدينة رام الله، بعد فترة ليست بالقصيرة عانى خلالها من المرض.
انتظم أبو علي مقبل في صفوف «حركة القوميين العرب» في الأردن عندما كان طالباً في ثانوية «رغدان»، وبعد هزيمة 1967 ناضل في إطارات «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» الامتداد التنظيمي والكفاحي للحركة. مع نتائج الأزمة الداخلية التي شهدها مؤتمر الجبهة (آب/أغسطس) عام 1968، والتي انفجرت للعلن في (شباط / فبراير) 1969 بإعلان الانشقاق وتأسيس الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، انحاز أبو علي إلى التنظيم الجديد، وبقي في صفوفه حتى عام 1972.
بعد ست سنوات من الاستقلالية التنظيمية، التحق أبو علي بـ «جبهة النضال الشعبي الفلسطيني» عام 1978، وسُمي مندوباً لها في إطار «مؤتمر أحزاب البحر الأبيض المتوسط» في مقرها الدائم في طرابلس الغرب، إلى أن غادر تنظيم الجبهة، وليبيا عام 1981. وقد أمضى عدة سنوات من حياته متنقّلاً ما بين سوريا، حيث كان طالباً في كلية الحقوق/جامعة دمشق، وانخرط في نضالات الحركة الطالبية في الجامعة، وقاد التظاهرات الوطنية المرتبطة بالأحداث، وبرز دوره في الاتحاد العام لطلبة فلسطين، ولبنان وتونس، موظفاً في الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية قبل عودته إلى الضفة الغربية، بعد توقيع اتفاق «أوسلو»، مع العائدين.
بعد سنوات من عمله في الدائرة السياسية، صدر قرار بنقله إلى دائرة الشباب والرياضة، التي ظل فيها حتى إحالته على التقاعد.

نبض الشارع الشعبي في هتاف
على مدى خمسة عقود، لم يتوقف أبو علي عن الهتاف محمولاً على أكتاف المتظاهرين. من عمان إلى رام الله، مروراً بدمشق وبيروت وطرابلس الغرب وتونس. وطوال تلك السنوات بقي فقيدنا الكبير مسكوناً بالانتماء القومي، والعروبة التي لم تغب عن هتافاته. استطاع «الهتَّاف» أن يصوغ الشعارات السياسية التحريضية من واقع نبض الشعب، بعيداً عن شعارات حزبية ضيقة أو فصائلية خاصة. لم يغب أبو علي عن التحركات في الشارع في كل المدن التي عاش فيها، في الأحداث القومية، والوطنية، كان يقود المتظاهرين، بهتافات أعدّها سابقاً «مختارات منتقاة بخط يده من أوراق أحتفظ بها»1. وغالباً ما يكون الهتاف/الشعار، وليد اللحظة وهو على الأكتاف، وهذا ما استطعنا تدوينه في جلسة مسائية جمعتنا به في عمّان في بيت أحد الأصدقاء يوم السبت 17 / 3 / 2001، عندما طلبت منه أن يُعيد على مسامعنا بعض الشعارات/الهتافات، التي ردّدها في عدة تظاهرات في انتفاضة الأقصى2، تلك الهتافات التي جعلت الروائي والكاتب رشاد أبو شاور يطلق عليه تسمية «منشد/حادي الانتفاضتين»3
لكنّ الهتاف الأبرز من بين آلاف الهتافات التي ألقاها أبو علي وهو على الأكتاف، كان الهتاف الاستثنائي «يا عباس ويا دحلان كل من عليها فان… يا دحلان ويا عباس قل أعوذ برب الناس»4 الذي ردّدته الجماهير المتظاهرة بحماس لافت في رام الله، خلال فترة الحكومة التي ترأّسها محمود عباس من 30 / 3 / 2003 إلى 7 / 10 / 2003، وكان فيها محمد دحلان وزير دولة للشؤون الأمنية.
استطاعت هتافات أبو علي أن تنتشر سريعاً في كل تظاهرات الضفة المحتلة، وأصبح البعض ممن يقودون التظاهرات في نابلس وجنين والخليل، يكررون الشعارات التي أطلقها في تظاهرات ميدان المنارة في رام الله. كما أن وجوده في التظاهرة أو المؤتمر أو الاجتماعات الموسّعة، يأخذ الحاضرين والمشاركين لتوجهات وطنية يصوغها أبو علي بـ «الهُتاف والحماس» بعيداً عن تخطيط المشرفين «الرسميين»، وهذا ما أشار إليه الكاتب محمد مشارقة في مقالة له، نشرتها صحيفة «فصل المقال» يوم 2 / 6 / 2000 «… أذكر أن أبا علي مقبل المحبوس الآن في رام الله، وقف في مؤتمر “قومي جداً” في طرابلس – ليبيا، وكان الردح ضد فلسطين وعرفات على أشده، عندما هجم مقبل على المنصة، وبدأ بالصراخ أمام المؤتمرين، إنكم لا تسيئون إلى عرفات بل إلى فلسطين وشهدائها ومقدّساتها ومناضليها. وظل يهتف باسم عرفات وفلسطين والشهداء، ويعارك أصحاب المنصة، حتى تحول المؤتمر بكليته في مشهد مؤثر يصفق ويهتف لفلسطين».

القمع والاعتقال والقنص لإخراس صوت الشعب
تعرّض أبو علي خلال مسيرته السياسية والكفاحية إلى شتى أنواع الاعتقال والتضييق في أكثر من عاصمة عربية، لكن الأبرز كان في رام الله (المركز السياسي والأمني للسلطة)، وقد كتب محمد مشارقة في مقالته المشار إليها أعلاه: «أذكر أبا علي مقبل أوائل السبعينيات محمولاً دائماً على الأكتاف، يقود المتظاهرين من أجل الوطن، وهو على عادته منذ ثلاثين عاماً إلى اليوم، لا يغيب عن تظاهرة، أو مواجهة مع محتل، وآخرها صورته المنشورة عالمياً يعارك جندياً على حاجز الرام قرب القدس». لكنّ الطلقة التي أطلقها أحد قناصة جيش الغزاة المحتلين مستهدفة أبو علي، كادت أن تودي بحياته، وقد كان مرفوعاً على الأكتاف في التظاهرة الصاخبة التي انطلقت في رام الله بمناسبة يوم الأرض في سنوات انتفاضة الأقصى. فشل الأطباء في مشافي رام الله بتوفير العلاج له، ما استدعى نقله سريعاً إلى مستشفى الأردن في عمان، لتشرف على علاجه خيرة أطباء البعثة الطبية العراقية التي وصلت إلى عمان، لعلاج الحالات الصعبة من جرحى الانتفاضة. وللمصادفة، كنت في زيارة للأهل في عمان، وبقيت عدة أيام مرافقاً له، حتى بدأ يتماثل للشفاء. وقد أخبرني الطبيب العراقي المشرف على علاجه، أن الطلقة التي اخترقت أعلى الفخذ من النوع الجرثومي، ما سيسبب متاعب دائمة وأوجاعاً متنقلة لأبي علي، وهذا ما حصل لاحقاً.
تكررت عمليات الاعتقال لمنشد التظاهرات في رام الله، في أعوام 2000 و2003 و2009، لكن كل حبس وتوقيف، كان يزيده صلابة وإيماناً بالمقاومة، وفي مقدّمتها الكفاح المسلح لتحرير الوطن المحتل، والنضال الشعبي في مواجهة سياسة التنازلات والمفاوضات والتبعية والفساد والمحسوبيات.

أبو علي
سلام لك وأنت تلتقي رفاقنا وأحبتنا المشتركين ممن سبقوك على النهج ذاته.
سلام لك وسلام عليك، يا رفيق الدرب ويا صديق العمر.

3 مقال منشور في صحيفة القدس العربي اللندنية يوم 10/1/2009
البلاد
* كاتب وسياسي فلسطيني

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

آخر الأخبار