حارس القدس.. بحث عن الحقيقة في أسئلة الراهن

الأستاذ بسام رجا كاتب وإعلامي فلسطيني

تتوالى وقائع مشهد النكبة في الدّعوة للثبات في القدس وتصعيد المقاومة، وهي المهام الّتي رافقت المطران طيلة السنوات التي أمضاها في القدس بعد احتلالها وحتى اعتقاله في العام 1974.

“القدس ليست آثاراً أو حجارة. ومن دون أهلها، لا تبقى القدس قدساً…”.

تختصر كلمات المطران المقاوم إيلاريون كبوجي في مسلسل “حارس القدس”، من إنتاج المؤسَّسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي في سوريا، ومن إخراج المبدع باسل الخطيب، وكتابة أ. حسن م. يوسف، كتباً من التنظير والإنشاء السياسي، معرّية صورة الواقع الذي انكشف على نكبة ثانية في العام 1967 وضياع القدس بشطرها “الشرقي”.
تتوالى وقائع مشهد النكبة في الدّعوة للثبات في القدس وتصعيد المقاومة، وهي المهام الّتي رافقت المطران طيلة السنوات التي أمضاها في القدس بعد احتلالها وحتى اعتقاله في العام 1974، بـ”تهمة” دعم المقاومة بالسّلاح.

 لم يفارقه مفتاح بيت “أم عطا” في القدس والسكين “الأمانة” التي انتظر طويلاً كي يعيدها إلى الشاب الفلسطيني – الدلالة هنا رمزية – الذي اعتقلته القوات البريطانية إبان انتدابها.

“حارس القدس” ليس مجرد عمل درامي يسلّط الضوء على حياة المطران المقاوم إيلاريون كبوجي، بل قراءة وطنية وفكرية وثقافية وإنسانية لرؤيته. إنه قراءة تبحث في أعماق الماضي، وتستحضر الواقع، وتدحض كل مقولات “التعايش” مع المحتل الذي سلب الأرض وزيّف التاريخ.

في رؤية تلفزيونية مكينة، فيها الإدهاش البصري الذي يمتلكه المخرج باسل الخطيب، نقترب أكثر من معرفة المطران إيلاريون كبوجي، الذي خط طريقه الوعرة وهو يدرك أن الرسالة التي يحملها يجب أن تكون رسالة عروبية وإنسانية جامعة، تبحث في المشترك، وتؤسس لشخصية خارج التأطير الضيق الذي يخرجها من دورها الريادي.
كان حملاً تنوء به الجبال، لكن المطران كبوجي بحث عن الحقيقة في أسئلة الراهن، ليجد أجوبة الواقع الصعب، لكنه ليس المستحيل.

القدس واحتلالها في العام 1967 ستشكّلان انطلاقة نحو مرحلة جديدة لم تغادر حارسها وراعي كنيسة الروم الكاثوليك فيها، الذي لن يدخل إلا من بوابة المقاومة اليومية ودعم أهلها، وهذا ما كان يدركه، وهو الذي درس فيها وعاش معاناة أهلها مع البريطاني الذي أسَّس لتوطين الصهاينة وعصاباتهم في الأرض المقدسة. 

المقاومة ليست شعاراً رفعه المطران كبوجي، وإنما هي بحث طويل في عقود الصراع مع المحتل، وهو ما جسده في رده على طلب اللقاء به من قبل قادة الاحتلال بعد احتلال القدس.

ما يطرحه مسلسل “حارس القدس” مسيرة حياة غنية بتفاصيلها، من حلب إلى لبنان، ثم العودة إلى القدس، ومنها إلى دمشق، ثم القدس، والنفي إلى روما، لتصقل التجربة حياة المطران، وتمنحه الفضاء الرحب من الحكمة والقراءة العميقة في ترابط الروح القومية والعروبية ومشروع المواجهة الحتمي لمشاريع التقسيم والتفتيت. لذا، كانت سوريا في طليعة القلاع التي استُهدفت.

أهمية مسلسل “حارس القدس” أنه يأتي في توقيت مهم ومفصلي من عمر الصراع، وفي ظل مشاريع “تصفية” القضية الفلسطينية التي تحاصرها سكاكين الذبح اليومي.
أن تستحضر شخصية المطران كبوجي في عنوان لافت حمل عنوان “حارس القدس”، إنما هو بيان مقاومة يأخذ من القدس وأهلها صورة المواجهة، التي تشكل مدخلاً للثبات ومقاومة الأسرلة والتهويد والتهجير، لكن صورة الواقع الرسمي العربي اليوم تقول إن القدس أصبحت “عبئاً”، والتطبيع الذي “يجتاح” بعض العواصم العربية يكرس عنواناً لمرحلة “يسود” فيها حراس كيان الاحتلال؛ “حراس” قدموا كل ما يملكون لتخرج القدس من دائرة الصراع العربي- الصهيوني، وتدخل نفق “الإنجازات”، لتقسيمها وتفتيتها، وممنوع عليك أن تتحدث عن شعبها وقضيته، فتهمة “الإرهاب” “تحاصرك” من أنظمة الشراكة في “صفقة القرن”!

“شيطنة” المقاومة وقضية فلسطين لم تعد حبيسة الغرف المغلقة، فقد تجاوزت تلك الحدود لتدخل في دائرة النتاج “الثقافي والفكري” لعواصم عربية “تبشر” بالعلاقات مع كيان الاحتلال، وتعتبر القدس وفلسطين نسياً منسياً، وأنهما مجرد أوهام وترهات تاريخية، في تبنٍ كامل للرواية الصهيونية.

هذا الترويج يسير على أشده من بعض “النخب” المتصهينة التي أُسّست لها مراكز دراسات “نافذة” في عواصم عربية.

أطلَّت خطوات متسارعة للتطبيع برأسها من خلال الأعمال الدرامية “الحارسة” للأفكار الصهيونية، كما يقدم في مسلسل “أم هارون”، الذي يروج للتعايش مع “إسرائيل”، ويتحدث عن اليهودية “المظلومة” “أم هارون”. وطبعاً “أم هارون” هي النموذج المتصاعد للتطبيع، بعد أعمال درامية لامسته من دون الإفصاح المباشر عن وجهها.

لا يقف التطبيع على مسلسل “أم هارون”، بل يتجاوزه في رسائل مباشرة للاحتلال في “مخرج 7″، لتخبرنا شخصية رئيسة في المسلسل أن “فلسطين جلبت لنا الويل، ويكفي ما دفعناه للشعب الفلسطيني”، وعلينا التواصل مع الإسرائيلي. هذا الطرح الخطير والمتعاقد مع أفكار تسويق الاحتلال يهدف إلى منح “الغفران” للمحتل “الطيب”.

أن يسوّق التطبيع من خلال الدراما ليس مستهجناً، بعد أن أعلنت عواصم عربية عن مشاريعها المستقبلية تجاه الاحتلال، وفتحت نوافذها للتعاون “المشترك” السياسي والاقتصادي والثقافي، واعتبرت أن العقود الماضية من “الخصام” عفا عليها الزمن، وأنها ستكون حارسة لمشاريعه في المنطقة، وستغسل ذاكراتها على وقع نشيد “الهاتيكفا”.
حين تنتج سوريا “حارس القدس”، فهي تعلي صوت المقاومة، وتقول إن رسالة المطران المقاوم إيلاريون كبوجي ابن سوريا، هي رسالة الانتماء إلى مشروع عروبي ـ قومي دافع عن أصالة الحضور والثقافة والتاريخ، ولم يستسلم طيلة عقود المواجهة مع غزاة الأرض، وسخَّر كل حياته لنصرة الإنسان في لغة اللقاء على المشتركات المصيرية.
القدس هي أنفاس المقاومين ودماؤهم التي تشهد على أهل فلسطين الثابتين في المواجهة.

 القدس تستعيد حارسها اليوم وكل يوم، وتشتاق لمن أدخل السلاح لأبنائها.

ستبقى كلمات المطران إيلاريون كبوجي مدوية: “من دون أهلها، لا تبقى القدس قدساً”.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

آخر الأخبار