إعلان الاستقلال الفلسطيني: ارتدادات وطموحات متأرجحة

ربحي حلوم

بعد ثلاثين عاماً على إعلان دولة فلسطين في الجزائر فإن حلم الدولة يبتعد مع إصرار القيادة الفلسطينية على نهج التفاوض. بينما تحقق المقاومة الفلسطينية اختراقات هامة قد تعيد الأمل من جديد بدولة فلسطينية حقيقية على التراب الفلسطيني.

احتفى كثيرون من الفلسطينيين المحبطين يوم الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري بحلول الذكرى الثلاثين لإعلان ما يسمى بـ “يوم الاستقلال” الذي صدر عن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشر، التي انعقدت في مثل ذلك التاريخ من عام 1988م في الجزائر الشقيقة.

ولم يكن هذا الإعلان هو الأول من نوعه في التاريخ الفلسطيني؛ حيث سبقه الإعلان الأول للاستقلال الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة برئاسة الراحل الحاج أمين الحسيني في الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 1948م عبر حكومة عموم فلسطين التي كان يرأسها في غزة آنذاك السيد أحمد حلمي عبد الباقي الذي انتهت حكومته المذكورة بوفاته عام 1963م.

” البرنامج المرحلي” شكل أول انعطافة قيادية للانخراط في مشاريع التسويات المطروحة، والتي اتسمت بطابع التنازلات المتوالية.

كما أن إعلان الاستقلال -موضوع مقالتنا هذه- لم يكن نتاج يومه بقدر ما كان حصيلة وقائع وسياسات عربية وأخرى ذاتية، كانت تعكس واقعاً مريراً أحدث لدى الفلسطينيين شعوراً باغترابهم عن الوطن، وابتعادهم عن حلم الدولة، الأمر الذي دفع بالقيادة الفلسطينية المتنفذة آنذاك في النصف الأخير من القرن الماضي إلى أن تتجه إلى انعطافة ومنحىً جديديْن، تُنحّي فيها جانباً شعار تحرير كامل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، الذي تصدر أهم القواعد النضالية، التي نصت عليها اللوائح التأسيسية لفصائلها المقاومة، مستبدلة إياه بتبني شعار إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة أخذاً ببرنامج النقاط العشر، الذي طرحه السيد نايف حواتمة الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأقره المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثالثة عشر المنعقدة في القاهرة في مارس عام 1977م تحت مسمى “البرنامج المرحلي” الذي شكل بدوره أول انعطافة قيادية للانخراط في مشاريع التسويات المطروحة، والتي اتسمت بطابع التنازلات المتوالية التي آلت إلى وضعنا الكارثي القائم بدءاً من مسلسل البرنامج المرحلي ونقاطه العشر ، ومروراً بإعلان الاستقلال وإقامة الدولة طبقاً لذلك الإعلان على أقل من نصف ما نص عليه قرار التقسيم المرفوض أصلاً ، ووصولاً إلى أوسلو الكارثية، وما نتج عنها من كوارث ومخرجات مدمرة.

ومع مرور ثلاثين عاماً على إعلان الاستقلال وتبعاته التي أوهمت العالم بأن حلم الدولة قد تحقق للفلسطينيين، ما زلنا نجد أنفسنا كشعب يتمزق، بأننا بتنا منقسمين إلى أربعة أطياف مُعلقٌة مصيرها في الهواء:

أولا: فلسطينيو الداخل المحتل عام 1948م المهددون بالاقتلاع والإلغاء أو التبادلية والمقايضة في أمر المستوطنات تحت طائلة قانون الدولة اليهودية العنصري، الذي أقره الكنيست الصهيوني مؤخراً.

ثانيا: وفلسطينيو الضفة المكبلون تحت احتلالين بتعهدات والتزاماتٍ أوسلو وأوبئة التنسيق الأمني المستشرية والمتفاقمة وطحالب الفساد المتوالدة.

ثالثا: وفلسطينيو الخارج في الشتات بمن فيهم الستة ملايين لاجئ ومبعد، الذين يشكلون النصف المهدد بمخرجات صفقة القرن، التي يتصدرها بند إلغاء حقهم في العودة إلى أرضهم وممتلكاتهم وفق القرار الأممي 194.

رابعا: وفلسطينيو قطاع غزة المحاصرون والمستهدفون بالحروب المتعاقبة وبمخططات التجويع والقتل والترويع، والمتسلحون بإرادتهم البطولية في مقاومة تلك الحروب الهمجية ومحاولات التطويع ولَيّ الذراع والتركيع.

ألحقت المقاومة الفلسطينية في غزة مؤخراً أفدح هزيمة ضد قوات الاحتلال الصهيوني لم يتلق مثلها طيلة نصف قرن مضى.

لقد أدت تراكمات كل هذا الواقع المرير، الذي بات يحدُّ من طموحات الفلسطينيين ويزيدهم اغتراباً عن الوطن وابتعاداً عن حلم الدولة المستقلة، والذي يجهدون لتحقيقه على فلسطين التاريخ لا على جغرافية قُن الدجاج في الباحة المسيجة بجدران عازلة وحُجُب عالية تعزلهم عن محيطهم ، ما أدى إلى حالة تفجرت معها طاقات المقاومة الغزية البطولية بكل إبداعاتها وأشكالها ضد الاحتلال على الوجه الذي ألحق بالكيان الصهيوني خلال العدوان الأخير على غزة أفدح هزيمة، لم يتلقّ مثلها طوال نصف قرن مضى، وآلت إلى هزة تسببت في شرخ عميق، بدأ يترسخ ويزداد اتساعاً في أوساط مجتمع ومؤسسات الكيان الصهيوني، ويهدد ببداية عدٍّ عكسيّ نحو اضمحلال الاحتلال وزواله.

فكانت مسيرات العودة البطولية، التي أربكت أدوات العدو القتالية، حاضرةً في الميدان منذ يوم على الأرض وحتى الساعة، وكانت إرادة الابتكار والتطوير الذاتي الخارقة في التسليح لخلق حالة قادرة على لجم غطرسة الآلة العسكرية الصهيونية، وكانت إرادة المقاومة والصمود لدى أهلنا الغزيين في مواجهة العدوان أبلغ من نداءات تقرع الجرس في آذان المتخاذلين والمنخرطين في مسلسل التنازلات والمفاوضات العبثية والتطبيع، نحو استحقاق التعجيل في تصحيح المسار.

شكلت ابداعات المقاومة رافعة لنقلة نوعية لإعادة توجيه بوصلة النضال الوطني بعيدا عن مسلسل التفاوض العبثي ونحو مزيد من المقاومة والصمود.

وقد شكّلت هذه الإبداعات الثلاث رافعةً قويةً لاستحقاق بات مُلّحاً يٌفضي إلى نقلة نوعية في إعادة توجيه البوصلة النضالية للشعب الفلسطيني، وقياداته الواعية والمجربة للنأي عن مسلسل التفاوض العبثي والنهج الاستسلامي برمته، والانعطاف نحو تعزيز إرادة المقاومة والصمود بناءً على المعطيات التي أفرزتها مسيرات العودة، ونتائج العدوان الأخير، الذي تزامن مع الذكرى الثلاثين لإعلان الاستقلال؛ لتتحول القطيعة مع الماضي النضالي المهمش إلى عودة حية إليه؛ لإنهاء حالة الوهم التي أفرزها إعلان الاستقلال، والتي جعلت الفلسطيني يتوهم بأنه سيعيش في ظلها في دولة متخيلة، بينما هو كان -وما زال مسمراً- بل مستمرئاً العيش تحت الاحتلال في شبه سجن جماعي بمساحة الضفة والقطاع مضيّعاً بين أوهام أوسلو وهزاتها الكارثية والمستفحلة، التي حقنته بالمرارة والقهر وبين أحلام اليقظة والوهم.

إننا مع حلول هذه الذكرى المثخنة بالمثالب والتي صنعتها وآلت إليها، والأحلام الزاهية التي رسمتها، والتي تتزامن مع تصعيد الانتهاكات والتوقعات المرتقبة، التي ينتشر غبارها في الأفق منذرةً بقرب الإعلان عن دنو أجل الدخول في مرحلة متقدمة من صفقة القرن التي يغلفها الغبار الكثيف الذي أثارته وتثيره تراجيدية الراحل الخاشقجي الأشد همجية في التاريخ المعاصر، لم يبق أمامنا كشعوب الأمتين العربية والإسلامية إلا أن ندرك بأن لدينا الكثير الكثير مما يمكن أن نحتفي به، ونعلق الآمال عليه عبر النهوض إلى حالة الوعي والتسلح بعبر التاريخ وبمثل الإرادة والشجاعة اللتين جسدهما أهلنا وإخوتنا ومقاومونا في قطاع العزة والصمود.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

آخر الأخبار