في الذكرى 43 على استشهاد الأديب المناضل غسان كنفاني…مسيرة عطاء وشهادة

عدنان كنفاني
(صباح الاغتيال، يوم السبت 8 تموز 1972 جلسنا أطول من المعتاد نحتسي فنجان قهوة على شرفة بيتنا في الحازميّة، تحدث غسان كعادته في أمور كثيرة، واستمعنا كعادتنا باهتمام لحديث ذكريات عن طفولته في فلسطين مع أخته فايزة، وقبل أن يغادرنا في الساعة الحادية عشرة إلى مكتبه أصلح القطار الكهربائي اللعبة المفضلة لابننا فايز، وكان على لميس ابنة أخته أن ترافقه لزيارة أقارب لنا في وسط بيروت، بعد دقيقتين دوى صوت انفجار هائل، تحطم على إثره زجاج النوافذ واهتز البيت بعنف، صرخت دون وعي: غسان.. ونزلت بسرعة لأجد سيارتنا الصغيرة أشلاء ممزقة، كانت لميس ملقاة على بعد أمتار من السيارة جثة هامدة، ورأيت وسط الركام ساق غسان اليمنى مبتورة وملقاة على الأرض، صرخت بفزع: غسان.. غسان..
علمت فيما بعد أنهم وجدوا اشلاءه في الوادي وعلى أغصان الأشجار، نقلوها بعيداً عني، أيقنت أنني فقدت غسان للأبد.).
بهذه الكلمات البسيطة والحزينة أرخت آني كنفاني “المرأة العظيمة بكل المقاييس”، زوجة الشهيد غسان، الستارة عن مشوار حياة قصير مع زوجها، ورفقتها لرحلة مرض طويلة في بحر عمرٍ لم يتجاوز الستة والثلاثين سنة لرجلٍ ترك أضعاف ما تستوعبه تلك السنوات القليلة مشاعل مضيئة مازالت تغوص في معانيها ومعاناتها أقلام وعقول أكثر من أن تحصى، عملت بمباضعها الخبيرة كل صنوف التشريح وكتبت آلاف الصفحات دارسة، ومحللة لزخم إنتاج هذا الرجل.
استطاع غسان بنصفه الحيّ الذي طالما كتب عنه، أن يحلق ويبدع في ميادين شاسعة واسعة، فبالإضافة إلى التزامه الحميم بعلاقاته الأسرية الإنسانية المادية منها والمعنوية كعامل ربط مستمر لواقع أسرة “مثل أكثر الأسر الفلسطينية” فرضت عليها ظروف الحياة والتشرد أن تنتشر في أصقاع الأرض، تنحت الصخر وتخرج منه نبل البقاء، وهذا بالتحديد مثّل إزميلاً نحت في شخصية غسان شعوراً عميقاً بالانتماء المطلق الذي ينسحب أيضاً على ما يدور في دائرته من انتماء متكامل إلى مجتمعه وشعبه وبالتالي وطنه.
استطاع في مساحة زمن ضيق، وأفق أضيق أن يبدع في كل ما اتجه إليه، فكان كاتباً متميزاً في مجالات الرواية والقصة والدراسة والبحث والمقالة والنقد، والنقد الساخر والمحاضرات وآلاف الرسائل واليوميات والخواطر، وكان إلى جانب ذلك حزبياً منظماً ومخططاً واستراتيجياً، وكان مناضلاً ومقاتلاً ورساماً وخطاطاً ونحّاتاً، وصحفياً متميّزاً، وكان أيضاً شغوفاً بما تصنعه يداه في منزله أو مكتبه أو حديقة بيته.
واستطاع من خلال الأدب بكل أشكاله الذي جنده طيّعا مطواعاً في خدمة السياسة، وبالتالي النضال “وهذا إنجاز استثنائي” أن يصل، بل أن ينطلق من القواعد إلى فوق مسخراً، بسلاسة الفهم لواقع الأشياء على الأرض، كل حرف كتبه لتأصيل الارتفاع والارتقاء بالفرد الفلسطيني المقهور والمسحوق واللاجئ، إلى مقاتل وفدائي يفرض ما يريد وينتهي باستمراره هذا إلى النصر والعودة إلى الوطن، مفهوم بسيط في حقيقة شرحه، محفور على كل لسان يقول، إن التجارب علمتنا أن لا بديل عن الكفاح والكفاح المسلح تحديداً ولا بديل عن تراب الوطن ولا بديل عن فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر.
تقول آني زوجة الشهيد غسان:
(عندما تعرفت على غسان أول مرة في أيلول 1961 طلبت منه زيارة المخيمات الفلسطينية التي سمعت عنها الكثير في بلادي ـ الدانمارك ـ أجابني بغضب: هل تحسبين شعبنا حيوانات معروضة للفرجة في حديقة حيوانات.؟ ثم شرع يتحدث بهدوء أكثر عن شعبه، ومن خلال غسان وما تعلمته منه، ما أزال حتى الساعة أعمل بكل طاقتي في سبيل فلسطين لأحمل بجدارة اسمي كزوجة للشهيد غسان، وكأم لأولاده الفلسطينيون).
أي رجل هذا! لقد اقترحتُ على مجرى الواقع، تقسيم حياة غسان إلى ثلاثة مراحل كل مرحلة تمتد 12 سنة، الأولى منذ ولادته 1936 وحتى عام النكبة 1948 وهي مرحلة الطفولة وبداية اللجوء، والثانية حتى 1960 مرحلة الدراسة والعمل بين دمشق والكويت، ثم المرحلة الثالثة حتى استشهاده في 1972 حيث اعتبرها المرحلة الأهم التي تألق فيها غسان إبداعياً وفكرياً وكفاحياً ونتاجا أدبياً.
أنني أتفق، من حيث المبدأ، مع باحث أجرى مثل هذه التقسيمات في حياة غسان، وقد أطلق تسمية على المرحلة الثالثة من عمر غسان بأنها “المرحلة البيروتية”، إلاَّ انني ازيد، أن هناك عوامل هامة وأهم لا تنفصل عن الحالة الإبداعية لغسان ليس فيها مراحل وتقسيمات ابتدأت هكذا دفعة واحدة وتطورت وتهذبت وصقلت وصارت إلى ما صارت إليه، وإنني بادعائي هذا أعتمد بيقين على مخزون وافر من الذكريات التي بدأت مع بداية الوعي، وقبله من خلال مذكرات مكتوبة بيد والدي “رحمه الله” الذي كان أشد ما يكون حرصاً على تدوين مذكراته اليومية منذ عام 1924 وحتى تاريخ وفاته 1984 بلغت أكثر من عشرة مجلدات ضخمة مدونة فيها الأحداث، مختلطة بين سياسية وعسكرية واجتماعية وعائلية، ليست عن غسان فقط، بل عن كل فرد من الأسرة بما يخصّ كل واحد منذ نطقه الأول وحتى النهاية “وهنا أرجو إن طال العمر أن أستطيع التفرغ لها”.
ما يهمنا من ذلك أن غسان الذي ولد عام 1936 مع بداية الثورة الفلسطينية على سلطة الانتداب البريطاني، ومجموعات العصابات الصهيونية، ورضع مع حليبه الأول كمّاً متراكماً من الصور الملونة لأحداث كثيرة خاصة، أعني أسرياً وهو يرى والده ما يكاد يخرج من معتقل حتى يدخل آخر، ووطنياً مع الرؤية اليومية لجثث المناضلين في الشوارع، وأسوق مثالاً جاء في مذكرات والدي أنه (بتاريخ الثلاثاء 26/4/1948 صحونا صباحاً على صوت الرصاص وقذائف الهاون التي تطلق باتجاه بيوتنا بكثافة من جهة محطة القطار في عكا ـ وكنا وقتها مع بداية اللجوء قد أتينا من يافا مكان إقامتنا وعمل والدي إلى عكا بيت جدي والحادثة المذكورة جرت فيه ـ فخرج ولدي غازي وأحمد السالم وفاروق غندور وأخي صبحي يحملون بواريدهم ويطلقون الرصاص من بيت الدرج باتجاه اليهود المهاجمين، وخرجت لأستطلع الأمر حيث رأيت بعيني جثة لرجل من السكان العرب لم أتبين من هو ملقاة في وسط الشارع وكان ولدي غسان حول أقاربه يجمع أغلفة الرصاص الفارغة الساخنة، في المساء لاحظت بعض الحروق على كفيه).
وهذه بلا شك صورة من المعاناة التي عاش غسان في أتونها، وحين استفاق إثر ضربة اللجوء القاصمة، وجد أنه فقد مع جيله.. الوطن، لتبدأ معركة أشد حرارة وقهراً لا توازن فيها ولا قواعد فأنت أمام قتالٍ بالأظافر لمجرد البقاء على قيد الحياة، عاشها غسان بكل أبعادها.
كان في الخامسة عشرة من عمره، يحمل على كتفه الطريّة الطاولة والكرسي الخشبي ليقف ساعات أمام بناء العابد ـ مجمع المحاكم في ذلك الوقت ـ لكتابة العرائض مقابل قروش قليلة، وعندما يعود منهكاً في المساء إلى البيت المزدحم، يساهم مع البقية، في صنع أكياس الورق أو طي ملازم الصحف والكتب، وفوق كل ذلك يدرس ويكتب.. نعم كان يكتب في ذلك الوقت أيضاً، وكانت كتاباته رغم طفولتها، هادفة ومركزة وقادرة على إيصال الفكرة وكانت على صورة قصص قصيرة أو تمثيليات إذاعية.. (“وفقني الله أنني جمعتها في كتاب صدر بعنوان (معارج الإبداع”).
في السابعة عشرة من عمره، بعد أن حصل على الشهادة الإعدادية، صار مدرساً للفنون واللغة العربية في مدارس وكالة الغوث للاجئين وبالتحديد في معهد فلسطين (الأليانس)، واستمر يكتب ويرسم ويقيم المعارض المتواضعة التي ليس فيها غير فلسطين، ثم ذهب إلى الكويت وكتب فيها ما أراه أفضل ما كتب إنسانياً، رغم ضبابية الرؤيا، منها قصة “علبة زجاج واحدة” إضافة لروائع أخرى جاءت امتداداً لفكر رجل لا يمكن أن يكون غير غسان الذي حسب أنه يخرج من العلبة في أول زيارة له إلى دمشق، ليقضي عطلة بيننا لنكتشف بحزن أنه مريض “بسبب الإجهاد وليس الوراثة” بالسكري، يومها قلت في نفسي: تراه هل خرج من العلبة أبداً.؟
بعد ذلك حط رحاله في بيروت، وأعلن بإصرار سباقه الشهير مع الموت، يقول غسان في واحدة من يومياته:
(إنه ثمن باهظ بلا شك أن يشتري الإنسان حياته اليومية، بموت يومي).
من هذه الملخصة نستطيع أن نقدر ما عاناه غسان في رحلة عمره القصيرة والتي بزخمها وعطائها المذهل تستحق بجدارة، الشهادة التي نالها، متوّجاً نضاله بخاتمة ملحمية، ناثراً الكثير من النجوم الساطعة التي ما يزال الباحثون يخوضون في مجاهيلها، ونجمة لامعة لا تغيب، علقها بفخر على جباهنا وصدورنا شعباً وعائلةً.
كتب الأستاذ محمد دكروب يقول (ثلاث جبهات رئيسية ناضل عليها غسان، القتال من أجل فلسطين، والصراع ضد شراسة المرض، وجبهة الإبداع الفني وتنويع أشكاله وتكثيف الإنتاج فيه بتسارع يسابق الموت، فأي جهد بشري إرادي هائل كانت تتطلبه هذه الحرب؟).
لابد لي من تسجيل توقيع قبولي لما وصل إليه الأستاذ دكروب والكثيرون في دراساتهم وتحليلهم لشخصية غسان وكتاباته وإبداعاته ونضاله، ولابد أن أقول باختصار، إن غسان بقدرة فريدة واستثنائية وغير مسبوقة، حلق في كل المجالات، ولن أستفيض بالتحليل فقد أكثر المحللون وأجادوا، بل أرغب أن أضيف أن الركائز الأساسية لتفسير مفهوم النجاح الذي سعى حثيثاً إلى غسان، ولم يسع هو إليه إذ لم يكن ينشد مجداً شخصياً بدليل أنه اختفى طويلاً وراء أسماء مستعارة متعددة، بل كان جلّ ما ينشد الوطن كطريق وغاية، والعودة إلى الوطن، مسخراً السياسة والنضال وسيلة لتقريب العودة وتحديد الطريق، واتفق مع الجماهير للانتقال من صورة للاجئين قدرهم الاستجداء فقط، إلى مقاتلين وفدائيين وأصحاب قرار،(خيمة عن خيمة تفرق)، وهذه نقلة نوعية واسعة ساهمت بتكريس الاستحقاق الوطني الفلسطيني الشعبي لصالح فلسطين، وبالتالي لصالح محيط فلسطين القومي الضروري والأساسي، وكان الأدب بكل أطيافه وسيلته للتعبير والالتصاق والانتماء، فاستخدم الفكرة الواضحة الجلية بعيداً عن الرمزية المفرطة والجمل الرطبة التي تتمازج ويمكن أن تتمازج مع لعاب الجميع، بما فيهم القاعدة العريضة المستقطبة للفاعلين الأهم على الساحة نضالاً وقتالاً والتزاماً، وهو أيضاً لم يفارقهم، انتزع أبطاله من بينهم وحلّق معهم عبر ثلاثة أقانيم هي مرادي من الإضافة.
المعاناة والإيمان والصورة الوصفية.
أما المعاناة فقد رأينا كيف كان لها دوراً أساسياً في صقله وبالتالي في ترسيخ إيمانه بكل رعشة عمل منها ولها وفيها، وانسكب بذاته كله في رسم هذا الإيمان بالقلم والريشة وكل وسيلة فخرجت مستقيمة، جلية، واضحة لا تقبل اللبس والتأويل.
أما الصورة فأجد أنها الأهم في أدب غسان، فأنت لا تستطيع التوجه إلى شريحة ما دون المعرفة العميقة لهذه الشريحة، وهذا لا يتأتى بغير الالتصاق والمعايشة، فعندما حدّث غسان “أم سعد” جعلنا نحن العارفين برائحة الريف، نشمّ الصرّة التي تحملها وننتزعها من جانب التنور أو قنّ الدجاج، وعندما وصف رحلة العائد إلى حيفا، كنا نعيش الطريق ونلمس كل تفصيل صغير أشار إليه، وهكذا في كل عمل، نسمع اصطفاق الباب بالتنك ونشم رائحة البارود ونحس تماماً أن “بدن الأرض مثل بدن رجلٍ مثقب بالرصاص يتضرج بزهر البرقوق”.
هذه الصورة الوصفية البديعة التي تجعلك تؤمن وأنت تعيش تفاصيلها، أن كاتبها جزء منها، ينقل من خلالها بلا تعقيد، ما أريده أنا وأنت والآخرين، بعيداً عن أي سلطة وأي ضغط، لأنه نتاج إيمان خلقته المعاناة.
هذا هو غسان الذي قضى في ريعان شبابه وقمة العطاء، فطوى صفحة وجهه على صورة النضال الفاعل الحقيقي في زمن المدّ القومي.
يقول الدكتور أنيس صايغ الذي تعرض لمحاولة اغتيال بعد عشرة أيام من استشهاد غسان في رسالة له إلى روح غسان (كم توهمت بعد استشهادك بأن وحشية العدو التي نالت منك ولم تنل مني تماماً فبقيت أتحرك وأتنفس وأرمش وإن خفّ السمع والبصر إلى ما يقارب الزوال ولكني بعد هذه السنين من اقتراف هاتين الجريمتين أغبطك وأغبط مصيرك ولا أغبط مصيري).
لن أقول لك يا غسان ماذا كنت ستسمع وماذا كنت ستشاهد لو كنت تشاركنا جلسات هذه الأيام.!
وأتمنى يا أخي أن تصدّق بأننا نحسدك..

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

آخر الأخبار