عن تطورات المشهد الفلسطيني الراهن

عن تطورات المشهد الفلسطيني الراهن

د. إبراهيم علوش

وقّع 14 فصيلاً فلسطينياً إعلاناً في الجزائر، في 13 تشرين الأول / أوكتوبر الفائت، يفترض أنه حجر الأساس للوحدة الوطنية الفلسطينية، فهل هذا الإعلان مؤهلٌ للنهوض بمثل هذا الدور فعلاً، نصاً وموقّعين؟

وما أن انجلت “عراضة” إعلان الجزائر، حتى احتفت أوساط محور المقاومة إعلامياً، بلقاء وفد من الفصائل الفلسطينية، يضم ممثلين عن حركة حماس، بالرئيس بشار الأسد في دمشق في 19 تشرين الأول / أوكتوبر الفائت، وهو ما عده مراقبون مقدمة مصالحة بين الدولة السورية وحركة حماس بعد 10 سنوات من القطيعة. فما هو أفق تطور العلاقات السورية-الحمساوية، إذا جاز وضع الطرفين جدلاً في كفةٍ واحدة؟ وهل بات الطريق إلى مثل تلك المصالحة ممهداً؟ وما هي منظومة الدوافع والمصالح التي قد تجعلها ممكنة أو متعسرة؟

وبرزت، في سماء المشهد الفلسطيني، إبان ذلك كله، ومن قبله وبعده، ظاهرة مقاوِمة نوعية تحيي الروح هي ظاهرة “عرين الأسود”، التي ألقى جيش الاحتلال وأجهزته بكل ثقله في مواجهتها، في مسعىً لاجتثاثها والقضاء عليها، قبل أن تنتشر كربيعٍ فلسطينيٍ حقيقي، لا مزيفٍ، من النهر إلى البحر. فما هي شروط حماية تلك البذرة الأصيلة وتعزيزها سياسياً؟ وكيف يمكن الارتقاء بها لتصبح حالة وطنية عامة عبر فلسطين؟

إعلان الجزائر نصاً

لو نظرنا إلى نص إعلان الجزائر الفلسطيني ملياً سنجد أنه يتمحور حول هاجس “التمثيل الفلسطيني”، فهو يدعو للحوار والتشاور لضم “الكل الوطني” إلى م. ت. ف، بصفتها “الممثل الشرعي الوحيد”، الذي لا بديل عنه، وهو نصٌ يكرس مبدأ “الشراكة السياسية، بما في ذلك عن طريق الانتخابات”، ويدعو إلى انتخابات مجلس وطني داخل فلسطين وخارجها، “على أساس التمثيل النسبي”، كما يدعو إلى انتخابات عامة رئاسية وتشريعية في الضفة وغزة (للسلطة الفلسطينية)، “وفق القوانين المعتمدة”، أي قوانين اتفاقية أوسلو وأخواتها.

هي تفاهمات مبدئية إذاً حول آلية “تمثيل الفلسطينيين” سياسياً، وهي قصة ليست ذات شأن، قبل التحرير، إلا لمن يبحث عن مفاوضات يدخلها مع العدو، أما لب القضية، قضية المقاومة والتحرير، التي تجتمع حركات التحرر من أجلها عادةً، فورد بشأنها بندٌ واحدٌ هو تأكيد التزام القوى الموقعة “بتطوير المقاومة الشعبية وتوسيعها”، و”حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة بأشكالها كافةً”.

لكنْ، مهلاً! فالحق بالشيء لا يعني وجوبه، والحق في بيع دكان مثلاً لا يعني وجوب البيع بالضرورة، والحق بالانفصال لا يعني ممارسة الانفصال فعلياً. وهكذا، جرى التوقيع على وثيقة تعوم “المقاومة بأشكالها كافةً”، أي العمل المسلح، عملياً، كحقٍ فحسب، “يجوز” تعليقه، مع الإدراك الكامل أن تعليقه وعدم ممارسته هو المطلوب غربياً وصهيونياً وتطبيعياً. أما ما جرى تثبيته في الإعلان فهو “تطوير المقاومة الشعبية وتوسيعها”، أي ما يسمى “المقاومة المدنية السلمية”!

هو لقاءٌ تحت سقف “الحلول السياسية” إذاً، و”العمل السياسي السلمي”، في مواجهة احتلال استيطاني إحلالي.

ومع ذلك، لم تكتمل التفاهمات، إذ وقع خلافٌ شَطَبَ بنداً في إعلان الجزائر ينص على تشكيل “حكومة وحدة وطنية فلسطينية تلتزم بالشرعية الدولية، وتنفذ استراتيجيةً وطنيةً موحدةً لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي”.

تعلق مصدر الخلاف بتعريف “الشرعية الدولية”، وما إذا كانت تقتصر على “القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة” (التي تعترف بحق الكيان الصهيوني بالوجود)، أم أنها تشمل أيضاً شروط اللجنة الرباعية الدولية المتمثلة بالاعتراف بالكيان الصهيوني، و”نبذ العنف”، أي التخلي عن المقاومة المسلحة، والاعتراف بالاتفاقيات السابقة مع الاحتلال، مثل أوسلو. فهل أصبح هذا هو سقف الحوار فيما يفترض أنه حركة تحرر وطني؟!

إعلان الجزائر سياسياً

يذكر أن الرباعية الدولية تأسست عام 2002، من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، قبيل غزو العراق واحتلاله، بغرض “استئناف عملية السلام بين “الإسرائيليين” والفلسطينيين”.

في التداعيات، رحب غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة بإعلان الجزائر، مؤكداً على الانتخابات وإنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة مستقلة وذات سيادة. كذلك رحب بالإعلان أحمد أبو الغيط، أمين عام الجامعة العربية، والبيان الختامي للقمة العربية في الجزائر بداية الشهر الجاري.

وكان الرئيس بن تبون قد أشار عقب توقيع الإعلان أنه يحمل رمزية خاصة كونه جرى في القاعة ذاتها التي أعلنت فيها “الدولة الفلسطينية” عام 1988، متمنياً أن يكون الإعلان مقدمة لإعلان الدولة الفلسطينية على “حدود الـ67”. فهل كانت الثورة الجزائرية لتقبل بسقف تأسيس شبه دويلة جزائرية مرتبطة بالاحتلال الفرنسي على 22% من الجزائر، هي نسبة الضفة الغربية وغزة من فلسطين؟!

على الرغم من ذلك، لن يمر اتفاق الجزائر لأنه:

أ – لم يكرس مرجعية شروط الرباعية الدولية غربياً،

ب – لم يحل مشكلة الصراع على السلطة، تحت سقف أوسلو، بين مرجعيتي رام الله وغزة، فلسطينياً،

ج – لم يعبر عن برنامج تحرري مقاوم يمكن تبنيه كبوصلة وطنياً وشعبياً.

وتوجد 11 محاولة “وحدة وطنية” سابقة لم تنهِ “الانقسام” منذ عام 2007، وبياناتها لم يجف حبرها بعد. فطرفا “الانقسام” يناوران للسيطرة على السلطة الفلسطينية، إذ ثمة مشكلة في تعريف معنى “الانقسام” فلسطينياً، فهل هو انقسام سلطة أوسلو بين الضفة وغزة، أم أنه فرزٌ ضروريٌ ومحبذ بين نهج الدويلة المسخ ونهج التحرير الكامل؟

ثمة لبس، بناءً عليه، في معنى “الوحدة الوطنية”، فهل هي تجميع الفصائل تحت يافطة م. ت. ف. على أساس برنامج تفاهم مع الطرف الأمريكي-الصهيوني على “دويلة”، ومن أجل “لم شمل” سلطة أوسلو، وما علاقة ذلك بمشروع التحرير من قريب أو بعيد، وبالتالي، بالوطنية؟

ما هو مشروع حماس السياسي؟

إن مشروع السلطة الفلسطينية في رام الله واضح تماماً، وهو إيجاد حيز “دولتي”، إذا صح التعبير، ضمن ترتيبات وتفاهمات مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، منها التنسيق الأمني ضد المقاومة، وقد أثبت فشله وارتطم بالحائط المسدود على مدى عقود، وها هي نتائج الانتخابات “الإسرائيلية” الأخيرة تكرر إثبات هذا الاستنتاج.

أما مشروع حماس السياسي فهو الملتبس (وكان ملتبساً طوال سنوات على كاتب هذه السطور)، لكن ما يسمى “الربيع العربي” كشفه تماماً على أنه: أ – نيل الاعتراف العربي والدولي بحكمها في غزة، ب – العمل على مد تلك السلطة إلى الضفة الغربية.

من أجل ذلك، اعترفت حماس بحدود الـ67 رسمياً في ميثاقها عام 2017، ولن نتوقف عند تصريحات بعض قادتها التي نحت بهذا الاتجاه قبلها، ابتداءً من خطاب خالد مشعل عام 2009، رداً على خطاب أوباما. وكان طوني بلير قد زار غزة عام 2015، ممثلاً للرباعية الدولية، ومطالباً حماس بوثيقة رسمية تتجاوز التصريحات.

ومن ذلك أيضاً، إيقاف معركة “سيف القدس”، عام 2021، بعد نيل اعتراف مصري بحكم حماس في غزة عملياً، ما كان له أن يتم من دون غطاء دولي.

ومن ذلك، الاستماتة لزيارة الجزائر بعد ردة الفعل الجزائرية العنيفة إزاء زيارة حماس المغربَ مباشرةً بعد معركة “سيف القدس”، بدعوة من حكومة سعد الدين العثماني، أي حكومة حزب العدالة والتنمية الإخواني، التي وقعت الاتفاق التطبيعي بين المغرب والكيان الصهيوني قبلها.

ومن ذلك، السعي لتعزيز العلاقة مع الأردن والحكومة اللبنانية، ولاستعادتها مع السعودية ودول الخليج، وتزكية نفسها كبديل لدى روسيا الحريصة على الإمساك بأوراق المنطقة، ومنها الورقة التركية و”الإسرائيلية” والحمساوية وغيرها.

ومن ذلك، السعي لنيل اعتراف الدولة السورية، فما يهم حماس هنا هو تثبيت مشروعية حكمها لغزة، واستكمال الاعتراف المصري باعتراف سوري، بعيداً عن رومانسيات تعزيز العلاقة بين أركان محور المقاومة.

من هنا نشأ ما يسمى “الانقسام الفلسطيني”، فالسلطة الفلسطينية تفرط في الكثير من الأمور وطنياً، إلا موضوع “التمثيل الفلسطيني”، الذي تتشدد فيه كما لا تتشدد في شيء.

محددات العلاقة بين حماس وسورية

يصعب فهم السلوك العام لحماس من دون هذا الأساس، ولو اقتصر الأمر على ارتباطاتها الإخوانية، لما سعت لإقامة علاقة مع الدولة السورية أبداً، رغم وجود تيار في حماس يرتبط بمحور المقاومة. لكنّ إعادة الربط مع سورية هدفه حمساوياً منافسة رام الله، التي تحسنت علاقتها مع دمشق خلال السنوات الفائتة، بمقدار ما ساءت علاقة حماس مع دمشق، بغض النظر عما يقال عن توطيد أركان حلف المقاومة في مواجهة الحلف “الإبراهيمي”.

لا بد من الإشارة، قبل استكمال الصورة، إلى أن كل مقاوم من أي فصيل، أو من خارج أي فصيل، هو رصيد للشعب الفلسطيني وللأمة العربية ولمحور المقاومة. ومن يشتبك ميدانياً مع العدو الصهيوني يمسك بالعروة الوثقى التي تمثل الخط الصحيح فلسطينياً، وكذلك من يدعم نهج الاشتباك مع العدو الصهيوني، ولو بكلمة، هم إخوة وأخوات ورفاق ورفيقات، ولو اختلفوا فيما بينهم سياسياً أو عقائدياً.

لا مزايدة على مقاومٍ قط. وكتائب عز الدين القسام، وكتائب شهداء الأقصى، وكتائب أبو علي مصطفى، وكل الكتائب، وكل مقاوم لا ينتمي لأي فصيل، في فعل المقاومة ذاته، في الميدان، هو الممثل الشرعي الوحيد لفلسطين، وهو وهي الجديران بالاحتضان والدعم والمساندة، ولكنّ ذلك لا يجوز أن يصبح ذريعةً لمنع أي نقاش أو نقد للفصائل أو لنهجها ولقياداتها سياسياً. فالمقاوم يتبناه الشعب بصفته مقاوماً، أما الحق في نقد القيادات والفصائل فموضوعٌ آخر.

هذا مهم لأن البعض اعتبر أن استقبال الرئيس الأسد للفصائل الفلسطينية، عقب معركة “سيف القدس”، وإشادته بـ”كل المقاومين”، بأنه إشادة بحماس، وهذا غير دقيق، فالحديث عن كتائب عز الدين القسام وكل المقاومين مثلها، لا عن حماس تنظيماً وقيادةً ونهجاً بالضرورة.

إن موقف سورية الداعم للمقاومة في غزة ليس جديداً، ومن ظن أنه أعاد اكتشاف العجلة، نحيله إلى كلمة الرئيس الأسد بمناسبة أداء القسم لولاية دستورية جديدة، في 16/7/2014، إبان العدوان على غزة، في عز الحرب على سورية واصطفاف حماس مع قوى العدوان ضدها (نذكّر مثلاً بتصريح عزيز الدويك، عام 2013، بأن الإطاحة بـ”النظام السوري” الآن أولى من الجهاد في فلسطين).

قال الرئيس الأسد في 16/7/2014: “البعض يعبر عن لا مبالاته بما يحصل في غزة، اعتقاداً منه أن لدينا من المشاكل والقضايا الوطنية ما يكفينا. والبعض الآخر يعبر عن شماتته بعدوان “إسرائيل” على الفلسطينيين كرد فعلٍ على جحود وقلة وفاء البعض منهم لما قدمته لهم سورية عبر عقود. وفي الحالتين هو تصرفٌ ساذج، لأن ما يجري في سورية والمنطقة برمتها مرتبطٌ بشكلٍ مباشرٍ بفلسطين”.

أضاف الرئيس الأسد في الخطاب ذاته، عام 2014: “هذا يتطلب منا أن نميز تماماً بين الشعب الفلسطيني المقاوم، الذي علينا الوقوف إلى جانبه، وبين بعض ناكري الجميل منه… بين المقاومين الحقيقيين الذين علينا دعمهم، والهواة الذين يلبسون قناع المقاومة وفق مصالحهم لتحسين صورتهم أو تثبيت سلطتهم، وإلا سنخدم بشكلٍ واعٍ أو غير واعٍ الأهداف “الإسرائيلية” التي تسعي إلى تمزيقنا أكثر، وإلى إيهامنا أن أزماتنا محلية منعزلة”.

بالعودة إلى علاقة حماس بدمشق، من المهم التنبه لمعنى استقبال خليل الحية، ضمن وفد للفصائل الفلسطينية، يضم القوى الموجودة في دمشق، ويضم سفير السلطة الفلسطينية سمير الرفاعي، وهذا مهم في السياق الفلسطيني الداخلي، الذي تعيه دمشق جيداً، وهو يعني أن استقبال حماس لا يأتي على حساب أحد، وأن دمشق ليست طرفاً في الصراع على سلطة أوسلو، وأنها لا تغلب النزعة السلطوية على نهج المقاومة، إذ من المهم التذكير هنا أيضاً أن الرئيس الأسد أكد على الموقف السوري من أوسلو ومن “الرباعية” وشروطها، خلال لقائه مع الفصائل الفلسطينية عقب معركة “سيف القدس” عام 2021.

كذلك من المهم الالتفات إلى مجموعة من العوامل عند الحديث عن أفق العلاقة بين غزة ودمشق. فمن جهة، ثمة ضغوط معروفة، عمرها سنوات، من حزب الله وإيران، وحتى روسيا، لاستعادة العلاقات بين حماس والدولة السورية. ومن جهة أخرى، ثمة ضغوط كبيرة من الشارع الموالي، وضمن الدولة السورية، ضد استعادة العلاقة مع حماس. وهذا واقع لا يستطيع أن ينكره أي مطلع على الشأن السوري.

للأسف، لم تساعد تصريحات خليل الحية في مؤتمره الصحفي في دمشق على رأب الصدع، فقد تصرف كالمنتصرين، من دون مراعاة الحساسيات التي تجاوزتها الدولة السورية من أجل استقباله، وأنه أعطي فرصةً لمقابلة نبل القيادة السورية بالمثل، ولمداواة جراح السوريين، فلم يفعل. فلم يكن هناك اعتذار ولا مراجعة نقدية ولا إعلان عن محاسبة داخلية.

نلفت النظر هنا إلى مقالة د. مهدي دخل الله، عضو القيادة المركزية في حزب البعث، “حماس وسورية: للدولة اعتباراتها لكن الشعب لا ينسى”، في “البعث”، في 26/10/2022، التي تناولت طريقة تصرف خليل الحية في دمشق.

كذلك نلفت النظر إلى نارام سرجون، الذي كتب في البداية داعماً لزيارة حماس إلى دمشق، لإقناع السوريين بها، ثم نشر مادة بعد الزيارة في نقد الإعلام السوري لأنه أتاح لخليل الحية بأن يظهر كجنرال منتصر خلال الزيارة مستفزاً السوريين.

علينا أن نتذكر، في المحصلة، أن سورية تفاوض ولا توقع، ولنا في مفاوضات مدريد أسطع مثال، حين أخذت “الإسرائيليين” خمس سنوات إلى بحيرة طبريا وأعادتهم عطاشى. فالتفاوض، في حد ذاته، ليس مؤشراً على أن الأمور تسير نحو الانفراج بين غزة ودمشق بالضرورة.

لا بد أيضاً من النظر للعلاقة مع حماس من منظور أوسع، هو العلاقة مع تركيا وقطر، اللتين تدفع إيران وروسيا باتجاه مصالحة دمشق معهما، وهنا أذكّر بما ورد في مقابلة الرئيس الأسد مع قناة “أر تي” بالإنجليزية قبل ثلاث سنوات، في 11/11/2019، والتي قال فيها: “لا مشكلة لنا مع تركيا كجار، إنما نظام أردوغان يحتل أجزاء من سورية ويغزوها، وهذا لا يرشحه لأن يكون شخصاً مفضلاً للاجتماع به والحوار معه، ولكن الدولة السورية منفتحة للتفاوض”، ومن البديهي، بحسب اجتهادي المتواضع، أن مثل ذلك التفاوض سوف يكون على آلية جلاء المحتل التركي عن التراب السوري، لكن حتى هنا، لا يعبر التفاوض بحد ذاته، إن حدث، عن تحولٍ نوعيٍ في العلاقة بالضرورة.

ظاهرة “عرين الأسود” والحلقة المركزية المفقودة في الساحة الفلسطينية

رب قائل إن المصلحة في تركيز التناقض على العدو الرئيسي، ضد الهيمنة الأمريكية في الإقليم، وضد العدو الصهيوني في فلسطين والجولان، تقتضي تجاوز كل التناقضات الثانوية، من أجل المصلحة المشتركة، لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أن تلك المصلحة تتمثل بإصلاح ذات البين بين غزة ورام الله، أو بين غزة ودمشق.

فكلٌ من مركزي رام الله وغزة مشروع سلطة، والمصالحة بين غزة ورام الله، إذا تمت حقاً، إنما تعزز نهج التفاوض مع العدو الصهيوني، باعتبار أن المطلوب هو أن يتحدث الفلسطينيون بصوتٍ واحدٍ على طاولة المفاوضات، ولكن هذا لا يصب بالضرورة في سياق مقاومة الهيمنة الأمريكية في المنطقة أو الاحتلال الصهيوني، بل يصب في سياق تحسين الشروط التفاوضية.

البديل هو الوحدة الميدانية المقاتلة، كتلك التي شهدناها في نابلس وجنين، فذلك هو النوع الحقيقي من الوحدة الذي يمكن أن يسمى حقاً “وحدة وطنية فلسطينية”، لأنها:

أ – وحدة مقاتلة،

ب – تتجاوز الفصائل،

ج – تتوجه ضد العدو الصهيوني،

د – وتحظى بالاحتضان الشعبي، لأنها تمثل النفس الشعبي العربي والفلسطيني.

إن “عرين الأسود” تجلٍ لعبقرية الإبداع الشعبي الفلسطيني، فلم تكد معركة “وحدة الساحات” تنتهي في غزة، التي انتصرت لجنين، حتى اشتعلت معارك الضفة من مخيم جنين إلى البلدة القديمة في نابلس انتصاراً لكل فلسطين.

تمثل الظاهرة إذاً ارتقاءً بالمقاومة من حالات الرجم والطعن والدهس، باتجاه إطلاق النار والكوع المتفجر. وهي ظاهرة يخاف العدو انتشارها في عموم فلسطين، من رفح إلى الناقورة إلى أم الرشراش.

باختصار، يفتقد المشهد الفلسطيني اليوم إلى ظهير سياسي لتصاعد المقاومة في الداخل، أي أنه يفتقد إلى بوصلة تمثل نقطة مرجعية تقوم على تصعيد المقاومة المسلحة من الداخل والخارج، وعلى العودة إلى تكتيك القنابل البشرية ونقل تكنولوجيا الصواريخ إلى الضفة الغربية والأرض المحتلة عام 1948.

ليس لدى العدو برنامج تصالح مع المحيط العربي أو الفلسطيني، بل برنامج إخضاع، هو التطبيع من دون شروط، مقابل “حلول اقتصادية”، وهذا يعزز مصداقية نهج المقاومة والتحرير.

لا السلطة، ولا حماس، تمثل القضية الفلسطينية اليوم، والساحة تستصرخ أهلها لإنشاء قطب ثالث، أرى أنه يجب أن يتكون من حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية-القيادة العامة وكل القوى والفصائل والشخصيات المعنية ببرنامج التحرير الكامل، برنامج المربع الأول، برنامج الإجماع الوطني الوحيد في التاريخ المعاصر للشعب العربي الفلسطيني: الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل، والميثاق القومي من قبله.

إن عدم وجود مثل ذلك القطب الثالث هو الحلقة المركزية المفقودة في الساحة الفلسطينية اليوم، لأنه القطب الذي يمكن أن يشكل رافعة لنهج الوحدة الميدانية المقاتلة، بعيداً عن التلهي بسفاسف الانتخابات والصراع على المكاسب السلطوية في ظل احتلال.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

آخر الأخبار