في ذكرى رحيل المناضل الوطني والقومي الكبير ناجي علوش

كتب ابراهيم ناجي علوش

منذ توفي ناجي إبراهيم سالم علوش قبيل فجر نهار الأحد الموافق في 29/7/2012… ولا زلت أتأمل كرسيه المتحرك وفراشه الفارغ اللذين تحيط بهما رفوف الكتب إلى السقوف كجدران حصنٍ منيع لا تزال ترفرف في فضائها روح الجاحظ والمتنبي القومية العربية أبداً ودوماً ولسان حالها يقول: “خيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ”…

ولا يزال هنالك من يرسل فيه شعراً أو نثراً أو سطراً من الذكرى… بعضهم أحبه كإنسان دمثٍ رقيق، وبعضهم عرفه كمناضل شرس، وبعضهم عرفه كقائد أو كمقاتل مقدام، وبعضهم ارتبط به كبعثي أو كفتحاوي سابق، وبعضهم تلقح بفكره القومي اليساري، أو بنزعته الثورية الرافضة أبداً للمهادنة مع أعداء الأمة، وبعضهم رافقه في سنوات “حركة التحرير الشعبية العربية” وعرف معه المطاردة والعمل السري واستهداف الرفاق بالقتل والسجن والاضطهاد، وبعضهم قدره كرمز ثقافي أو كمجدد شعري، أو كرئيس لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، أو كمدافعٍ حقيقي عن الديموقراطية والحريات لدى الأنظمة الوطنية والقومية والممانعة، وعند نقيضها، وداخل التنظيمات الثورية نفسها، وبعضهم احترمه وزامله كرمز قومي جذري، أو كأحد رعاة التحالف القومي-الإسلامي المدافعين عن المقاومة في التسعينات، وبعضهم لم يعرفه، إنما أحس به، أو سمع عنه أو قرأه، فتلهف له قلبه، وحزن عليه، أما كاتب هذه السطور، فقد أدرك شيئاً من ذلك كله، لذا رأى أن من واجبه أن يحاول للتاريخ أن يرسم ملامح هذا الهرم الثوري الذي نبت من رحم تربة بلادنا كسنبلة القمح وشجرة الزيتون، والذي تصاعد وعلا حجراً حجراً من خلال قدرته الخلاقة على إدراة متلازمات جدلية ما برح يوصلنا فهمها بشكل مبتسر وأحادي إلى الانحراف ذات اليمين أو ذات اليسار.

وما كان من الممكن لناجي علوش أن يحيط بكل تلك المتلازمات، وبحلولها الجدلية، وأن يحافظ على ثباته وتوازنه في المستنقعات الضحلة والرمال المتحركة لو لم يكن هرماً عملاقاً متماسكاً بكل ما للكلمة من معنى، لا كالصنم، فقد كان يحتقر الأصنام، بل كان هرماً من إنسان، لم تحوله كل الخطوب والخيانات والممارسات الانتهازية التي تعرض لها إلى حجر، ولم يحوله حلمه القومي أو إنجازاته إلى متعالي، وقد كان إحساسه بالآخرين أصيلاً لا مفتعلاً، وكان وظل متواضعاً، لأنه نبت من أعماق الأرض، وعجن بزيت الزيتون، وعرف معاناة الفقراء حتى شبابه، فتقمصتها روحه، وحولته إلى هرمٍ من إيثار.

كلنا يجتذب من هم مثله، وإن الطيور على أشكالها تقع… أما ناجي علوش فقد كان يسرق قلب الخصم حتى والخصم يعاديه… فيكرهه خصمه أكثر بسبب تلك “السرقة”، وهو يتمنى لو لم يعرفه، أما من احبه فقد كان يتمنى لو أنه انسل إلى أعماق قلبه فنُسي هناك.

ولد ناجي علوش لعائلة فلاحية بسيطة في قرية بئرزيت في فلسطين المحتلة، وبقي يحتفظ بطيبة الفلاح وببساطته في التعامل مع الناس، لكنه اختلف عن غيره ممن ولدوا وعاشوا في نفس الظروف أو أحسن منها، بقدرته على تجاوز الصغائر، عادة بالعفو عن حقه الشخصي، وبقدرته على التطور والارتقاء، لا على صعيد الفكر فحسب، بل على صعيد نمو الشخصية وتطورها، وكأنه مثال آخر على ما جاء في القرآن الكريم في سورة إبراهيم: “كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ”.

كانت تلك إحدى الثنائيات الفذة التي تميز شخصية ناجي علوش. فقد كان بسيطاً مركباً، بسيطاً في التعامل مع الناس، مركباً في تفهمه العميق للحالات الإنسانية والاجتماعية والعاطفية، وفي استيعابه للشخصيات الصعبة، وفي قدرته على لمس الأوتار الحساسة في شغاف القلب، أو في سبر كنه أكثر النوازع المظلمة استتاراً في شخصيات السياسيين أو المثقفين غير الثوريين.

وسنمر هنا لماماً على بعض تلك الثنائيات في شخصية ناجي علوش، دون أن نتمكن من تغطيتها كلها، إنما تأتي هذه السطور للتعريف بشخصية الرجل وبأساس خطه السياسي. أما فكره السياسي، فيحتاج لكتابٍ منفصل، وكذلك سيرته الذاتية، التي تحتاج لكتابٍ بدورها، ونعد بإعداد كلا الكتابين إن اسعف العمر، أما تجربته الشعرية ودراساته الأدبية، فنأمل أن نتعاون فيهما مع من يجد في نفسه القدرة والرغبة والاستعداد للإخلاص لسيرة الرجل وموقفه وتجربته.

قلنا أن ناجي علوش نشأ في بيئة فلاحية فقيرة، وكان جدي إبراهيم، بسبب قلة حجم أرضه، يعمل في أرضٍ الفلاحين الموسرين في بناء “السناسل” الحجرية وتطعيم الأشجار المثمرة، وسنمر على هذا الجانب بتفصيلٍ أكبر في الكتاب الذي يتناول سيرة ناجي علوش. إذن بقي بسيطاً في تعامله مع الناس العاديين، لكن عقله المتعطش أبداً للمعرفة، والذي اصطدم مع عالمٍ متغير في أوائل الخمسينات، جعله في سنوات المراهقة، بالإضافة لتعلم عشق اللغة العربية في تلك الفترة مع عمي المرحوم جميل، يسارياً، مبهوراً بخطاب اليسار الذي يتبنى قضايا الكادحين. وكانت علاقته السياسية الأولى مع أحد الشيوعيين في القرية، حتى بدأ الأخير يهاجم من يتحدثون عن الوحدة العربية ويدعون لها، وهي الفكرة التي اجتذبت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، كما اجتذبت أبي أيضاً. فلما زجره صديقه الشيوعي عن هذا قائلاً أن تلك “أفكار أيتام هتلر”، سأله أبي: “ومن هؤلاء؟”، فأجاب: “البعثيون!”، فقرر أبي أن يبحث عن البعثيين وانضم إليهم على خلفية حسه القومي المرهف الذي كان قد نماه فيه جدي الفلاح الذي لم يكن قد دخل المدرسة في حياته إلا ثلاثة أشهر، وعلم نفسه القراءة، بالرغم من ذلك، وكان يقرأ الشعر القديم والقرآن الكريم، كما أخبرني أبي، في تسجيل بصوته أعددناه خلال فترة مرضه لكتابة سيرته.

المهم أن الانضمام لحزب البعث العربي الاشتراكي، بقوة الحس القومي، لم ينسه حسه الاشتراكي، وبقي أبي اشتراكياً حتى وفاته، وهي الثنائية الأخرى التي أود الإشارة إليها. فقد كان قومياً عروبياً حتى النخاع، وكان قومياً أولاً، قبل أن يكون أي شيء أخر، لكنه لم يكن قومياً تقليدياً، فقد كان عقله الباحث عن العلم والمعرفة لا يفتأ يبحث عن القوانين التي تحكم حركة التاريخ والسياسة والمجتمع، وكان حسه الكادح لا يدفعه للتقشف فقط في حياته (ولم يكن يستعرض تقشفه بالمناسبة بالأسمال أو قلة الذوق في التصرف، بل كان أنيقاً على تواضع… أناقة من يتسرب الحس الجمالي من سلوكه وذوقه المرهف لا من ماله)، بل كان حسه الكادح حساً جمعياً، يجعله يفكر بالفلاح والعامل والموظف والطالب والجندي، ويجعله يشعر بالسليقة بتأثير أي سياسة أو بنية اقتصادية-اجتماعية على عامة الناس، وكان ذلك الحس العفوي أساس اشتراكيته، قبل النظريات الاشتراكية التي أفنى سنواتٍ طوال في دراستها وفي الكتابة فيها، ومن هنا بعض عناوين كتبه مثل “الماركسية والمسألة اليهودية” أو “الطبقات والصراع الطبقي في الوطن العربي” وغيرها.

المهم أن ناجي علوش كان ينفر من “الفذكلة” النظرية لبعض الاشتراكيين والماركسيين، ومن استعراض المفردات الأجنبية والسلوك الغريب عن مجتمعنا باسم “الاشتراكية”، ولذلك كان يحب ماوتسي تونغ من كل قلبه، كما أحب هوشي منه، وكما أحب تشافيز خلال سنوات مرضه. فقد كانت الاشتراكية بالنسبة له إحساساً وموقفاً قبل أن تكون نظرية، مع أنه بلور توليفة قومية يسارية متماسكة، بعد خروجه من حزب البعث، الذي اصبح فيه الأمين القطري للحزب في الكويت عام 1959، قبل أن يتركه على خلفية الصراع بين ميشيل عفلق وعبدالله الريماوي (مع أن الوالد لم يكن ريماوياً). وقد نمت تلك التوليفة القومية اليسارية التي أصبحت أساساً لفكر ناجي علوش من خلال التفاعل مع نفس المدرسة التي اشترك فيها ياسين الحافظ والياس مرقص اللذين فتح لهما ناجي علوش أبواب نشر فكرها عبر “دار الطليعة” التي كان يديرها في بيروت خلال الستينات. وقد وجهت تلك المدرسة نقداً نظرياً وسياسياً حاداً للشيوعيين العرب بسبب موقفهم آنذاك من الوحدة العربية وتحرير فلسطين، سوى أنها تمسكت، بالرغم من ذلك، بالمنهج العلمي في التحليل، وبطرح برنامج قومي يستند إلى الطبقات الشعبية العربية، أي يستند لرؤية طبقية.

وبالنسبة لناجي علوش بالذات، اقترن ذلك بممارسة العمل المسلح في صفوف الثورة الفلسطينية، وقد نتجت عن ذلك دراسات وكتب مهمة نظرت لتجربة الثورة الفلسطينية ونقدتها، وشكلت لفترة من الزمان حصناً فكرياً منيعاً في مواجهة التيار التسووي في حركة فتح خاصة وفي منظمة التحرير الفلسطينية عامة. وكانت الثنائية هنا مزج النظرية بالممارسة، وهو الأمر الذي أشار له أكثر من كاتب تناول ناجي علوش بعد وفاته، ولذلك لن نتوسع فيه هنا.

لكن النقطة الأخرى التي ميزت فكر ناجي علوش هنا كانت علاقته الوجدانية بالشعب والناس، لا السياسية فحسب، ولذلك فقد احترم ثقافة الشعب وتشربها غريزياً، وعندما كان يتحدث عن معارك العرب ضد الغزاة، خاصة معارك سيف الدولة الحمداني ضد الروم وكيف وحد العرب حوله، أو عن الثقافة العربية والإسلامية، عن إنجازات العرب الحضارية في الإندلس مثلاً، فقد كان يتحدث بشغف، قومي أساساً، ينبثق من حس الناس، كان يؤاخذه عليه كثيرٌ من المنظرين القوميين واليساريين. ولم يجد أبي وأمي غضاضة في إرسالنا، عندما أغلقت المدارس في بيروت بسبب الحرب الأهلية، لمدرسة المقاصد الإسلامية في صيدا في جنوب لبنان لنقيم فيها، ونحن لا نزال صغاراً.

كان أبي لا يشرب الخمر ولا يدخن ولا يسمع الموسيقى ولا يشاهد الأفلام أو المسلسلات أو المباريات الرياضية، وكان قد قال لي مرة، فيما بيننا، أن الرجل الذي لا يستطيع أن يمر يومه دون احتساء القهوة أو الشاي مدمنٌ يقلل إدمانه على المنبهات منه. ولكن ناجي علوش، على الرغم من زهده بالحياة، كان رقيقاً دمث الخلق واجتماعي الطبع، وهنا الثنائية الأخرى الجذابة في شخصيته، فلم يكن قاسياً أبداً في الحكم على الناس، بل كان ديموقراطياً متفهماً إلى أبعد الحدود، ومتقبلاً لمن لا يوافقه، ولم يكن ليؤذي الناس بكلامٍ جارح أو سلوكٍ متشدد، ولم يكن ليقاطع من لا تروق له عاداتهم، بل لم يكن ليشعرهم برأيه فيما يفعلونه، إلا عندما تسنح له الفرصة، وبرفقٍ شديد. والكلام يدور بالطبع، حول السلوك الشخصي، لا حول الموقف السياسي الذي لم يهادن فيه ولم يساير ولو على قطع رأسه، حتى لا يؤول الرجل بشكل ليبرالي رث، فذلك رجلٌ كان يعرف أين تكمن أولوياته في الحياة.

ولعل أكثر ما كان يجتذب الناس لناجي علوش هو حرصه الشديد على كرامة الإنسان، حتى أعدائه، فلم أسمعه يوماً يشتم أحداً بكلمة نابية حتى عندما كان يسيل الدم وينطلق الرصاص والقذائف وتحل حجة القوة محل قوة الحجة وتذر الحرب قرنها، فتلك هي القوة التي لا أدعيها والتي لم أرها في غيره أبداً. لم يضربني مرة، بل كان يعتمد وسيلة الحوار والإقناع، والهيبة، وعندما ألقت الوالدة القبض عليّ مرة وأنا أدخن في سنوات المراهقة، وشكتني للوالد، وكان آنذاك يعيش متخفياً متشرداً بين البلدان بعد أن حكم عليه ياسر عرفات بالإعدام وطارده وأعدم عدداً من رفاقه، تم الترتيب للقائي به في العراق، وحدثني عن مساوئ التدخين طويلاً، ثم قال لي: “لن أمنعك إذا قررت التدخين، ولا تكن جباناً فتخفي الأمر كاللص، بل دخن أمامي”، ولم اصدقه، فأمسكت بسيجارة واشعلتها، ولم يفعل شيئاً سوى أنه أشاح بوجهه عني، وكان شعوري أنني قطعت حبل الود كافياً لكي اطفئها…

ذلك هو الرجل الذي كان يعود من خطوط القتال ببدلته العسكرية ليضع بندقيته ومسدسه جانباً (“إبراهيم لا تلعب بالكلشن بالبيت”)، وليساعد المرحومة الوالدة سميرة عسل (أم إبراهيم) بجلي الصحون أو تنظيف المنزل، ليعود بعدها إلى قراءة المتنبي ليرتاح قليلاً قبل أن يأخذ قسطاً من النوم ليعود لمواقع القتال، وهذا وهو يحتل موقعه كرئيس لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين! أي مثقفٍ عربيٍ كبيرٍ هذا! ومن مثله؟! لقد كان نسيج وحده. كان فلاحاً من بيرزيت قرر أن الرجولة لا تمارس على الزوجة والابنة والأخت، بل على من يحتلون الوطن ويضطهدون الشعب… وهي ثنائية أخرى وددت لفت النظر إليها.

أما بعد، فقد كان خمر ابي هو دواوين الشعر، وكنت أتعجب كيف “يرتاح” من جلسة متواصلة تمتد ما بين اثنتي عشرة وثماني عشرة ساعة من القراءة والكتابة، بقراءة دواوين الشعر القديم، خاصة المتنبي الذي عشقه وكتب عنه دراسة متميزة. وكان ذلك المقاتل الشرس… مرهف الحس، وكان يتأثر بشدة في حضرة الشهداء، ولكنه لم يكن شاعراً وطنياً فحسب، أو ملتزماً، بل كان قبل كل ذلك إنساناً، وقد كتب مرة

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

آخر الأخبار