قرن من الصفقات: بداياتُهم إلى هذه النهاية، فأين بداياتُنا؟

خالد عايد

( سأحاول أن أكتبَ من دون أن يتملّكَني الغضب، ومن دون هيمنة كتابة أكاديميّة باردة تبعث على القشعريرة والغثيان، ومن دون تكريس عبوديّة النصّ لاستعمار النزعة الاستهلاكيّة)

إلى أين تمتدّ جذورُ “الصفقة”/الخطّة الأمريكيّة – الصهيونيّة الجديدة؟

إلى اتفاقات أوسلو ووادي عربة وكامب ديفيد والمبادرة العربيّة؟

أجل، بل أبعد أيضًا.

إلى البرنامج المرحليّ للقيادة الفلسطينيّة وصيحةِ ” يا وحدنا” منذ سنة 1974؟

إلى أوّل خطّةٍ أميركيّةٍ لـ”التسوية في الشرق الأوسط”- خطّة روجرز (1969-1970)؟

نعم … بل أبعد.

أمْ أنّ جذورَ “الصفقة” الحاليّة تُوغِل في التاريخ، إلى الفترةِ ما بين سنتيْ 1936 و1939؟ حينها، استجابت القيادةُ الفلسطينيّةُ لنداءِ القادة العرب بأنْ يَخْلدَ الشعبُ إلى السَّكينة تلبيةً لرغبة “صديقتِنا بريطانيا العظمى.” وحينها، بدأ قبولُ “النُّخَب” الفلسطينيّة – العربيّة بمشروع بيل لتقسيم فلسطين سنة 1937. وحينها، أنشأ بعضُ هذه النُّخب “فصائلَ السلام” لتقاتلَ الثوّارَ في الجبال من خلال “تنسيقٍ أمنيّ” مع العساكر الإنكليزيّة والصهيونيّة. وحينها، توجَّهتْ هذه النُّخبُ إلى مؤتمر المائدة المستديرة في لندن، قبل أنْ تجفَّ دماءُ القائد العامّ للثورة، عبد الرحيم الحاج محمّد، الذي قضى في قرية صانور… بمكيدةٍ من “فصائل السلام”!

أجل، بل إلى أبعد من تلك الثورة وسواها من الثورات والهبّاتِ المغدورة أيضًا: ثورة القسّام، وثورات أبو جلدة والعرميط وأبو كْباري وسواهم من الثوّار الشعبيين.

لعلَّ جذورَ “صفقة القرن” الحاليّة تعود إلى ما قبل قرنٍ من الزمن: إلى أوّل وفدٍ تفاوضيّ أرسله “المؤتمرُ العربيُّ الفلسطينيُّ الأوّل” إلى مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919؛ وإلى أوّل ثورةٍ أسمتْها النُّخبُ “ثورةَ يافا” زورًا وبهتانًا، وهي كانت في الواقع ثورةَ الفلّاحين والبدو في الريف المحيط بالمدينة.

بل ربّما إلى أعمق من ذلك أيضًا.

لعلَّ جذورَ “صفقة القرن” تعود إلى مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919

هكذا إذن كانت البدايات. في مواجهة مشروعٍ إمبرياليّ – صهيونيّ، استعماريّ استيطانيّ، كانت النُّخب القياديّةُ تسلك نهجَ التسوية والمساومات، في حين كان الشعبُ يسلك طريقَ المقاومة، الشعبيّة – المسلّحة.

ولأنّ النخبَ القياديّة كانت تملك زمامَ القيادة، ولا تزال، فإنّها كانت، ولا تزال، تُجهض الثوراتِ والانتفاضات، وتهْدر دماءَ الشعب والتضحيات.

هما طريقان كخطّيْن متوازييْن لا يلتقيان، مهما امتدّا، وامتدّ بهما الزمن.

لن نغفرَ ولن ننسى:

كيف نغفرُ لمن شتمَ المقاومةَ واعتبرها “إرهابًا،” وتَعانَقَ مع الاحتلال من خلال “التنسيق الأمنيّ،” فطاردَ المقاومين واعتقلهم وعذّبهم وصادر سلاحَهم، فجعل الاحتلالَ بلا كلفة؟

كيف نغفر لمن ذهب إلى التفاوض مع العدوّ بحجة “وقف الزحف الاستيطانيّ،” فإذا بالاستيطان يتكثّف وترتفعُ أعدادُ المستعمَرات والمستوطنين أضعافًا مضاعفةً (من أقلّ من 100 ألف مستوطن في الضفّة إلى نحو 600 ألف؟)

كيف نغفر لمن قسّم الشعبَ الفلسطينيَّ إلى ضفّةٍ، وقطاعٍ، و48، ولاجئين؛ وقسّم الضفّةَ إلى مناطق “أ” و”ب” و”ج” فمهّد للاستيطان والضمّ؟

كيف نغفر لمن قسّم مدينةَ الخليل، بموجب “بروتوكول الخليل،” إلى قسمٍ عربيٍّ وآخر يهوديّ، بما يشمل تقسيمَ الحرم الإبراهيميّ الشريف زمانيًّا ومكانيًّا؟

كيف نغفر لمن ارتضى التبعيّةَ الاقتصاديّةَ للاحتلال من خلال “بروتوكول باريس الاقتصاديّ،” ثمّ أخذ يرفع عقيرتَه بالصراخ والعويل كلّما لجأ العدوُّ إلى وقفِ  العائدات الضريبيّة أو اقتطاعِها؟

كيف نغفر للضبّاط المتكرِّشين في المكاتب ولم يخوضوا معركة سوى ضدّ المقاومة؟

كيف نغفر لأشباه المثقّفين الذين ارتضوْا لأنفسهم دورَ “المبرِّراتيّ” وسال لعابُهم على الوظائف بألقاب الوزير، ووكيل الوزارة، والمدير العامّ، ورئيس منظّمة غير حكوميّة، ومدير مركز كذا أو كذا للأبحاث/ الدراسات/ الإعلام الخ؟

كيف نغفر لرجال الأعمال الجدد والقدامى، من صفوف السلطة وخارجها، انخراطَهم في الاقتصاد الأسير، التابعِ للمحتلّ، باسم “بناء الاقتصاد الفلسطينيّ،” لقاءَ أرباحهم الفاحشة في السمسرة والوكالات التجاريّة التي تفوح منها رائحةُ الفساد (ألا زلنا نذكر “فضيحةَ الإسمنت” المصريّ المُستخدم في بناء المستعمرات والجدار؟)

كيف نغفر للقادة الفلسطينيّين والعرب الذين وَعدوا بالازدهار الاقتصاديّ و”هونغ كونغ/ سنغافورة الشرق الأوسط،” فلم نحصدْ سوى الفساد والإفقار والبؤس والتدمير والتقتيل وإثقال كاهل الشعب بالديون والبطالة؟!

كيف نغفر للأنظمة العربيّة مسلسلَ التواطؤ مع الأعداء منذ قرن، وقمْعِ شعوبها باسم “الأمن القوميّ،” والتخلّي عن قضيّةٍ تتشدّق تلك الأنظمةُ بأنّها “القضيّةُ المركزيّة”؟

حسنًا، فليعيدوا الزمنَ إلى الوراء. وليمسحوا كلَّ ما اقترفتْه أيديهم من جرائم. وإنْ لم يقْدروا (ولن يقْدروا)، فلينتقدوا أنفسَهم، وليتنحَّوْا جانبًا.

لكنّهم لن يفعلوا. بل سيعودون ليتسلّلوا من شقوق “الصفقة” – – التي لهم “شرفُ” المساهمة في إنجازها!

سيتسلّلون من خلال ذريعة “وحدة البيت الفلسطينيّ والعربيّ” ليكبِّلوا أيَّ مبادرةٍ للخروج من الهوَّة التي أوقعونا فيها.

سيخرجون من باب “الصفقة” ليعودوا من نافذة التكتيكات المهترئة التي لم يبرعوا في شيءٍ كما برعوا في لوْكها وتقيُّئها، من خلالِ ما كشف عنه “كبيرُ المفاوضين الفلسطينيّين” صائب عريقات، وهو: “تغييرُ شكل السلطة” وتكتيك “الرباعيّة الدوليّة،” كما من خلال تغيير شكل علاقة “التنسيق الأمنيّ” والعلاقات مع الكيان الصهيونيّ والإمبرياليّة الأميركيّة، إلى علاقة “مُخبِرين” لدى المخابرات المركزيّة الأميركيّة!

سيتلوّنون كما تتلوَّن الحرباء. سيتسلّلون من خلال كلام البطولة الزائفة وعنتريّاتِ التمرّد المزعوم على مواقفِ مَن كان “الوسيطَ النزيهَ” الأميركيّ.

سيتسلّلون بالكلام المعسول على “المقاومة الشعبيَّة” ليُوهموا الناسَ بأنّهم مقاومون – وهم يقصدون بها المقاومة السلميّة حصرًا في مناطقَ منزوعةِ السلاح.

سيتسلّلون من خلال مواصلة لغوهم الذي أكلَ الدهرُ عليه وشرب (أما سمعتم كلامَ محمود عباس وموقف الجامعة العربيّة؟) عن “الشرعيّة الدوليّة” و”السلام العادل والشامل” و”المبادرة العربيّة” و”الرباعيّة الدوليّة” و”حلِّ الدولتين” و”إقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتُها القدس الشرقيّة” إلى آخر المعزوفة المعروفة. وكأنّ شيئًا لم يكن!

أما سمعتم كلامَ محمود عباس عن “الشرعيّة الدوليّة” و”السلام العادل والشامل” وكأنّ شيئًا لم يكن!

إمّا أنْ يعيدوا الزمنَ إلى الوراء خمسةً وعشرين عامًا على الأقلّ، فيُعيدوا الشهداءَ إلى سلاحهم، وإلى أشجارِ الزيتون جذورَها العتيقة، وإلى الكلمات معانيَها الأصيلةَ، وإلى البحر زرقتَه ووالدي البحريَّ.[1]

وإمّا أن يرحلوا مع عابرينَ في كلامٍ عابر.

أولى الخطوات كي نخرجَ من كهف “قرن الصفقات” فيستقيمَ التاريخ: فضحُ الأضاليل التي كانت تُبثّ، وما تزال، بشأن “التسوية” مع الأعداء؛ ومحاكمةُ “نهج التسوية،” أفكارًا وممارساتٍ وأشخاصًا.

تلك كانت بداياتِهم… والنهايةَ.

أمّا نحن، فسنبدأ من جديدٍ، مرّةً أخرى، كما بدأنا مرارًا.

لن نبدأ من الصفر. كما أنّنا لن نبدأ من “روشيتة” جاهزة.

سنبدأ من التجربة التاريخيّة الغنيّة، ومن العقل الجماعيّ (حيث لا عصمةَ لقائدٍ فذّ أو مفكّرٍ عبقريّ).

سنبدأ من جعل المقاومة ممارسةً يوميّةً، ومن السعي إلى إعادة بناء المنّظمات والاتحادات الشعبيّة.

سنبدأ من السعي إلى إعادة ربط برنامج التحرّرالوطنيّ الفلسطينيّ بحركة الثورة العربيّة، وبحركة تحرُّر المنطقة من الهيمنة الإمبرياليّة ومن التبعيّة للسوق الرأسماليّة العالميّة، وبحركة التغييروالتقدُّم الاجتماعيّ في المنطقة العربيّة.

لهم نقول: دعوا الموتى يدفنون موتاهم.

ولنا نقول: ادفنوا موتاكم وانهضوا!

عمّان

________________________________________

[1] هذا هو الاسم الذي عُرف به أبي في منطقتنا الواقعة على الساحل الفلسطينيّ، بين يافا وقلقيلية وطولكرم، وقد طغى على اسمه الأصليّ (محمود) وعلى كنيته (أبي خالد) في ما بعد.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

آخر الأخبار