المقاومة الشعبية بين الضفة وغزة ..أنماط وتحديات

تقر القوانين والأعراف الدولية والتجربة التاريخية حق الشعب الفلسطيني بممارسة أنواع المقاومة كافة في مواجهة الاحتلال، ولذلك يخوض الشعب الفلسطيني المقاومة بأشكالها المختلفة مع الاحتلال ويبقي حالة التناقض والاشتباك مستمرة مع مشروع الاحتلال، بغض النظر عن آليات وديناميات الاشتباك؛ وصولًا لتحقيق الحرية. والمقاومة لا تقتصر على نوع واحد، بل إن شعوب العالم، ومن ضمنها الشعب الفلسطيني، مارست أنواعاً غير محدودة من المقاومة، بناء على ظروف الواقع، وطبيعة الصراع، وإمكانيات الشعوب المقاومة، وموازين القوى مع دولة الاحتلال.
وفي مواجهة الاحتلال “الإسرائيلي”، يبدو أن خيار المقاومة الشعبية هو المجمع عليه بين جميع المكونات الفلسطينية، مع تأكيد غالبية هذه المكونات على مشروعية أشكال المقاومة الأخرى وفي الطليعة منها المسلحة، مع اختلاف في الآليات والتوقيت. وبدأ خيار المقاومة الشعبية يستعيد شيئاً من زخمه النظري، في الآونة الأخيرة في ظل التعطل القهري للمقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وحالة قطاع غزة التي تراكم القوة بعد ثلاثة حروب مدمرة في ظل حصار قاس؛ مما جعل المقاومة الشعبية القاسم المشترك والحل التوافقي المتاح، في هذه المرحلة الحساسة؛ دون إغفال باقي أشكال المقاومة وهو ما بدا من رسائل النار التي وجهتها كتائب القسام وغيرها من الفصائل، عبر إرساء قاعدة القصف بالقصف والدم بالدم.

المقاومة الشعبية في الضفة وغزة: (1)

وهي المقاومة التي يخوضها جماهير الشعب الفلسطيني بشكل منظم، وتقوم أساساً على المشاركة الجماهيرية وليس على مشاركة الفصائل، دون أن يعني ذلك تغييب دور الفصائل في الحشد والتعبئة والتنظيم. وتجمع المقاومة الشعبية بين أساليب ناعمة مثل العصيان المدني، والإضرابات، ومقاطعة منتجات الاحتلال، وبين الاشتباك غير المسلح وشبه “السلمي” مع الاحتلال.
ولعل أهم مثال على هذا النوع في تاريخ الثورة الفلسطينية هو انتفاضة الحجارة التي انطلقت سنة 1987، والمسيرات المناهضة الأسبوعية ضد الاستيطان في الضفة، وأخيرًا مسيرات العودة في قطاع غزة التي انطلقت في 30 مارس/آذار الماضي.
أشكال متعددة (2)
ويختلف مصطلح المقاومة الشعبية حسب الأيديولوجيات، حيث إن المقاومة الشعبية تحمل مجموعة من الأساليب التي يمارسها الشعب من أجل نيل حقوقه السياسية والإنسانية، مشيراً إلى أن الأولى متقدمة على الإنسانية في فلسطين؛ نظراً لأن الشعب الفلسطيني يقبع تحت احتلال ويبحث عن حقوقه. ومن أشكال المقاومة الشعبية مقاطعة منتجات الاحتلال، وسحب الاستثمارات من الأراضي المحتلة، والمظاهرات قرب حواجز الاحتلال، والالتحام مع جنود الاحتلال وإلقاء الحجارة.
فجوة عميقة (2) (9)
يوجد اختلاف وفجوة كبيرة بين مفهوم المقاومة الشعبية التي يمارسها الشارع الفلسطيني ضد انتهاكات الاحتلال وبين المقاومة الشعبية السلمية المحضة التي ينادي بها رئيس السلطة محمود عباس دون أي مواجهة مع الاحتلال حتى ولو بحجر أو حرق إطار مركبة، أو أي وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس. حيث إن الإجراءات الأمنية التي مارستها أجهزة أمن السلطة طيلة السنوات السابقة حالت دون توسع رقعة المقاومة بجميع أشكالها ومنها المقاومة الشعبية، لذا فإن الاحتلال يمكنه التعايش لعشرات السنين في التعاطي مع المقاومة السلمية التي ينادي بها عباس، لأنها لا تسبب إزعاجا ولا خسائر ولا إحراجاً دولياً له. ويرجع نجاح نموذج المقاومة المدنية السلمية في قطاع غزة وفشله في الضفة الغربية المحتلة لعدة أسباب؛ أولها الظهير الأمني والسياسي والتنظيمي من المقاومة الفلسطينية بقطاع غزة، والرعاية والاهتمام الحركي والفصائلي، وثانيها الاستعداد للانفجار والتصدي والتحدي في قطاع غزة لدى الجمهور الفلسطيني المحصور في بقعة جغرافية محددة.

أهمية المقاومة الشعبية: (3)
أولًا: فتح جبهات تستنزف الاحتلال دون الاضطرار لدخول حرب جديدة.
ثانيًا: تنمية الحضانة الشعبية التي تحمي مشروع المقاومة في وجه الحصار والمؤامرات المختلفة.
ثالثًا: استنهاض الحالة الوطنية، وإبقاء حالة الاشتباك والتناقض مستمرة مع الاحتلال؛ بما يفشل مخططات التدجين والتذويب التي سعى الاحتلال في عدة مراحل.

الدوافع والموجبات (4)
تبدو مبررات استدعاء المقاومة الشعبية وجيهة إلى حد ما في ضوء الاعتبارات التالية:
1. انسداد آفاق المقاومة المسلحة على المستوى العملي والميداني في الضفة والقطاع؛ الأمر الذي يدعو للبحث عن آليات كفاحية بديلة متوافق عليها وطنياً.
2. انشغال الشعوب العربية في ترتيب بيتها الداخلي، ما يجعل التعويل على دور عربي شعبي واسع لإسناد القضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال خارج السياق، ويفرض التعاطي الذكيّ مع معادلة الصراع الراهنة مع الاحتلال.
3. ضرورة قطع الطريق أمام مخططات الاحتلال، الذي يحاول تصدير أزماته ومشكلاته الداخلية إلى الداخل الفلسطيني، عبر حملات التصعيد العسكري الميداني بين الفينة والأخرى.
4. ضرورة إبقاء روح المقاومة حية ومتقدة في نفوس الفلسطينيين، واستنهاض هممهم التي تراخت بفعل عدة عوامل؛ بما يضمن مشاركة مختلف القطاعات الشعبية في المعركة مع الاحتلال.
5. ضرورة إحراج الاحتلال دولياً، والعمل على تشويش وإرباك مخططات التهويد والاستيطان، إذ إن كل يوم يمر دون فعل كفاحي فلسطيني يُنقص من قدرة الفلسطينيين ككل على مواجهة مخططات وإجراءات وجرائم الاحتلال، ويجعل مهمتهم في كبح التغول الإسرائيلي على الأرض والمقدسات أكثر صعوبة.
6. ضرورة الخروج من مأزق تناقض البرامج والأجندات الفصائلية، عبر التوافق على برنامج عملي لمواجهة الاحتلال يلقى تأييداً وتجاوبا من الجميع، ويضمن قبول ومشاركة الفصائل الفلسطينية دون استثناء.
العقبات والتحديات (3)
تواجه المقاومة الشعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة بعض الإشكاليات والمعيقات، حددها الناشط الميداني صلاح الخواجا بالتالي:
1- إشكالية إدارة التمويل الأجنبي خاصة الأوروبي لدعم فعاليات المقاومة السلمية.
2- ضعف العمق الشعبي والمشاركة الشعبية في هذه الفعاليات.
3- الانقسام الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة؛ ما أضعف المشاركة الشعبية وخلق حالة من الخوف واليأس (وهي مسألة نسبية؛ إذ نجحت مسيرة العودة الكبرى في استقطاب الكل الوطني في فعل نضالي سلمي شعبي لا يزال مستمرا للشهر الخامس على التوالي). 4- عدم وجود الرغبة السياسية الواضح من قبل قيادة السلطة في تبني هذا الخيار وتعميق فاعليته فلسطينياً وإعلامياً ضمن رؤية واضحة المعالم. الانقسام الفلسطيني وتأثيره على المقاومة الشعبية.
(5) مضى على تاريخ المقاومة الشعبية الفلسطينية، أكثر من 11 عاماً، لكن أثر الانقسام الفلسطيني الداخلي، كان واضحاً وجلياً في التأثير السلبي عليها، من حيث المشاركة الشعبية، وردّات الفعل السلبية على العمل الجماعي والمشترك والموحد وحتى في التغيير والتأثير على القرار السياسي. فعلى الرغم من ذلك استطاعت المقاومة الشعبية أن تستمر وتحقق إنجازات على أرض الواقع مثل:
الحراك الشعبي شبه اليومي الذي كان في بلعين ونعلين والمعصرة أثناء بناء جدار الفصل العنصري، والذي تحول إلى حراك أسبوعي بعد الانتهاء من بنائه، بالإضافة إلى أن هذا النضال حقق في عدد من القرى إنجازاً بإزاحة الجدار، وتحرير آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية. وفي المقابل نجد أن المقاومة الشعبية في الضفة الغربية تعاني ضعف التفاعل الجماهيري معها، رغم مزاعم محمود عباس أنه لا يؤمن إلا بها. (3) ويرجع ذلك للأسباب الآتية:
1- يؤمن محمود عباس بالمقاومة الشعبية المدجنة، أي التي لا تستفز الاحتلال ولا تدخل في مواجهة معه، حتى لو كان من خلال الحجر والزجاجات الحارقة.
2- لا توجد استراتيجية مقاومة لدى السلطة، بل نجد تخبطًا يصيب الناس بالإحباط، فحيناً تمنع الناس من التوجه لنقاط التماس بحجة أن ذلك مهلكة، وعندما يتزايد الغضب الشعبي تسمح للمواجهات من أجل تنفيس الغضب وليس ضمن خطة لتصعيد المقاومة.
3- عملت السلطة على زراعة ثقافة اليأس وعدم الجدوى بين الناس في الضفة الغربية، وأصابت هذه العدوى أبناء الفصائل والتنظيمات، الذين يفترض فيهم قيادة المجتمع في العمل المقاوم.
4- عملت السلطة على تفكيك البنية التنظيمية لحركة حماس والجهاد، مما تركها عاجزة عن العمل الجماهيري بشكل فعال، بينما حافظت حماس على الهياكل التنظيمية لجميع الفصائل في غزة بما فيه حركة فتح. سيناريوهات المستقبل (7) حددت دراسة خاصة بمركز الزيتونية موسومة بـ”آفاق المقاومة الشعبية في الضفة الغربية” ثلاثة احتمالات ممكنة لتطور المقاومة الشعبية في الضفة الغربية: الأول هو استمرار نشوء حالة مقاومة شعبية فعالة وامتدادها في الأراضي المحتلة عام 1948، والثاني استمرار حالات المقاومة الفردية وعجزها عن التحول لحالة شعبية حيوية مستمرة، والثالث هو تجدد حالة الهدوء في الضفة لسنوات بخلق حالة استقرار اقتصادي.
وترجح الدراسة تحقق السيناريو الأول إن توفرت إرادة القوى والتيارات على تأسيس هذه المقاومة، وإلا فسنشهد السيناريو الثاني وتستبعد حصول السيناريو الثالث. المجتمع الدولي والمقاومة الشعبية الفلسطينية (8) تنصّ القوانين الدولية على أهم الحقوق الأساسية، وهي حق تقرير المصير، والحق في الحرية، واللذان يعدّان حقان ثابتان غير قابلين للتصرف بموجب ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وضمن هذا السياق القانوني رفض المجتمع الدولي بالإجماع أشكال الاستعمار كافة. وقد أكد الاتحاد الأوروبي في مناسبات عدة على “الحق الشرعي للفلسطينيين في تنظيم المظاهرات السلمية والمشاركة فيها”، وبصفة عامة يدعم المجتمع الدولي حق الشعب الفلسطيني في المقاومة الشعبية السلمية. خلاصة: في النهاية يبقى التأكيد على أهمية المقاومة الشعبية، على قاعدة إذكاء الروح الوطنية وإبقاء حالة الاشتباك والمواجهة مستمرة مع الاحتلال ولو بالحد الأدنى في نقاط التماس؛ وفي الوقت نفسه جمع الكل الفلسطيني تحت نمط مجمع ومتفق عليه؛ مع الحذر في الوقوع في فخ التدجين أو المقاومة المدجنة التي حاول البعض الترويج لها بأغنية ازرع ليمون ازرع تفاح، بما يبرك مخططات الاحتلال في التهويد والاستيطان والتدجين، ويفضحه أمام الرأي العام الدولي.

قسم الدراسات- آية شمعة- المركز الفلسطيني للإعلام

جميع الحقوق محفوظة – المركز الفلسطيني للإعلام

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

آخر الأخبار